التدين الفطري لدى اليمنيين وتهمة الردة
موسى عبدالله قاسم يكتب عن: التدين الفطري لدى اليمنيين وتهمة الردة
من يُلقي نظرة على تاريخ اليمن الديني قبل الميلاد وبعده، سيخلص إلى حقيقة جلية وهي أن عاطفة اليمني تجاه الأديان عاطفة جياشة وصادقة وقد تصل إلى حد التطرف في الدفاع عن المعتقد.
في عصور التاريخ اليمني الموغلة في القِدم نجد أن أغلب النقوش السبئية التي تم اكتشافها حتى الآن تتحدث عن القرابين وطلب المغفرة من الإله، والتي كان يقدمها الأقيال والأذواء والملوك، وشكر الإله على عونه في تحقيق النصر والظفر بالأعداء والعودة بالسلامة، وغير ذلك من التبتلات الدينية الدالة على الروحانية التي كانت تجسّد حياة اليمنيين.
حتى أن القصيدة الوحيدة بالخط المسند (ترنيمة الشمس) كانت عاطفية دينية ناجى فيها الشاعر إله الشمس شاكراً إياه على النعماء والبركة ودوام الخير.
وفي فترات اعتناق الديانات السماوية، لاسيما المسيحية واليهودية، كانت العاطفة الدينية طاغية على ما سواها، حتى أنها كانت المحرك الأول لأشهر محرقة ذكرها القرآن الكريم بحق المسيحيين في نجران، أصحاب الأخدود، يوم أن شنّ الملك ذو نواس الحمْيَري حملة عسكرية على نصارى نجران الذين خالفوا ديانته اليهودية، وأبوا أن يتخلوا عن معتقدهم، وبسبب رفضهم العدول عن المسيحية فعل بهم ما فعل، وكانت النتيجة احتلال اليمن ودمارها بذريعة الانتصار للمؤمنين المسيحيين.
الشاهد هنا أن احتلال اليمن هذا كان ناجماً عن استنجاد أحد الأقيال اليمنيين المسيحيين بالروم، ويدعى دوس ذو ثعلبان، وبسبب تعصبّه لمعتقده الديني، ضحّى ببلده واستجلب لها الغزاة، وهو ما تم في العام ٥٢٥م عندما غزا الأحباش اليمن بدعم روماني، وتسبب ذلك الغزو في انهيار مملكة حمْيَر واستشهاد الملك يوسف أسار (ذو نواس) خلال منازلته للأحباش الغزاة في معركة الساحل اليمني.
مع بزوغ فجر الإسلام، كان اليمنيون من أوائل الأقوام الذين آمنوا بالدين الجديد وناصروه بصدق وإخلاص، وكانت قبيلتا الأوس والخزرج اليمانيتان القاعدة الأولى لإرساء الدولة الإسلامية، والطليعة الأولى للذود عن الدين الاسلامي في وجه قريش الكافرة المتمردة في حينه.
وكانت الوفود اليمانية تتقاطر على المدينة المنورة طوعاً، إيماناً منها بالدين ورسوله، وكان لمقدم الملك الحارث بن عبد كلال الحميري الأثر الكبير في نُصرة الإسلام، حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام فرش له رداءه وقت مقدمِه، وكذلك ملك كندة الأشعث بن قيس الكندي ووائل بن حجر الحضرمي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي وفروة بن مسيك المرادي وكثير من أقيال اليمن، وكان لانضمامهم وقبائلهم الأثر البالغ على الدين الإسلامي، حتى بات الإسلام يماني التأسيس والبقاء والانتشار.
هذه العاطفة تجاه الدين الإسلامي لها موروثها الديني الضارب في أعماق اليمنيين، فيوم أن كانت قريش تعيش عصر جاهلية في كل مناحي حياتها وتعبد الأصنام وتتذلل لها، كان اليمنيون أهل كتاب، وكانت لهم نواميس حكمهم الناظمة لمناحي حياتهم، وكان الدخول في دين الله أفواجا استنادا إلى ذلك الموروث الديني التراكمي، دون أية مطامع دنيوية، مثلما كانت قريش تسعى لها ولازالت تلهث خلفها حتى اليوم بمسيمات عديدة ومتعددة.
وكدليل على صدق اليمنيين في اعتناقهم الديني المتجرد من أية مطامع، سأذكر موقفين لقبيلتي الأوس والخزرج؛ الموقف الأول يتلخص في عزة النفس لدى اليمنيين أثناء تقسيم غنائم غزوة حُنين، حين اندفعت قريش طامعة بالمغانم -كدليل على فهمها للدين والنبوة- وهذا المفهوم لا يزال سائداً حتى اليوم، في حين أنِفَ الأقيال من أوس وخزرج أن يهبّوا لتقاسمها، وكان بمقدورهم السيطرة عليها والاحتفاظ بها كُليّة، لكنهم وكما أسلفت كانوا يقاتلون من أجل نُصرة الدين الذي آمنوا به طوعاً، لا من أجل المغانم والأموال والهبات.
أما الموقف الثاني فكانت حادثة السقيفة بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام، حينها لم تلجأ قبيلتا الأوس والخزرج (الأنصار) للسلاح، لفرض خليفة على المسلمين منها، رغم ما كانت تمتلكه من قوة عسكرية ضاربة، مقابل ما كانت تفتقر إليه قريش؛ بل آثرت أن يُترك الأمر حفاظا على وحدة المسلمين، وانسجاماً مع فطرتها السليمة التي تقدّس الدين -أي دين-، فكان اختيار الصحابي أبو بكر الصديق خليفة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وهو ما قَبِل به كثير من اليمانيين وعارضه الكثير أيضاً، لاسيما إذا أخذنا بالاعتبار رفض الصحابي وزعيم الخزرج سعد بن عبادة الخزرجي، ذلك الاختيار سياسياً، وهو سيد قومه وله أتباعه الكُثُر.
ما يثير الاستغراب والاستهجان أيضاً، أن الكثير من المؤرخين لمسيرة الإسلام، لاسيما الثلاثي ابن اسحاق وسيف بن عمرو التميمي والطبري، صوّروا ثورة ذي المهلة القومية التي اندلعت عام 631م ضد الهيمنة الفارسية على اليمن على أنها كانت موجة ارتدادية عن الدين الاسلامي.
هذا الإدعاء تدحضه الطريقة التي أسلم بها اليمنيون، إذ من الثابت وكما أسلفنا أن دخول اليمنيين في الإسلام كان طوعاً لا كرهاً -عكس قريش التي أسلمت بحد السيف- ودون أية مطامع دنيوية، فكيف بمن يؤمن بمعتقد ديني بمحض إرادته أن يرتد عنه!
من ذلك نستشف أن الهدف من هذه الشيطنة لليمنيين كان سياسيا وتم تغليفه بالدين، لتجريم ثورة اليمنيين القومية السياسية وسعيهم لاسترداد حكم بلدهم من أيدي الفرس الذين استغلوا الدين الإسلامي للحفاظ على وجودهم الاحتلالي لليمن.
هذا الشيء خلص إليه مؤرخ اليمن الكبير العلامة محمد بن علي الأكوع، إذ يقول في تحقيقه لكتاب ابن الديبع "قرة العيون" إن ثورة ذي المهلة "كانت ثورة على الأوضاع ولأسباب ولدتها الظروف وكما يحدث عادة بعد كل حادث عظيم، ولم تكن نكوصاً عن الإسلام أو رجوعاً عنه". مؤكداً أن المؤرخ اليمني بهاء الدين الكندي أنكر وجود أية ردة في اليمن.
خلاصة القول، إن اليمنيين لم يكن لديهم أية مشكلة مع الدين -أي دين- فكل الديانات السماوية طافت اليمن، واعتنقها اليمنيون، من الحنيفية إلى اليهودية إلى المسيحية وانتهاءً بالإسلام. مشكلة اليمنيين تكمن في الغزو الهاشمي المُطعّم فارسياً والجاثم على صدر اليمن الجمهوري حتى اليوم، والمتسبب في كل هذا الخراب والدمار والشتات والتشرّد.
هذا الغزو استخدم الدين الاسلامي وكيّفه على مقاسه العنصري واختزله في سلالة كهنوتية بقالب عنصري مقيت، وكفّر وزنْدق كل مناوئ له، وهو الأمر الذي دفع حراك الأقيال للمضي في تكسيره وتفتيته، بالوعي القومي اليمني فكراً، والبندقية السبتمبرية كفاحاً وتضحية.
عناوين ذات صلة: