آراء

في ذكرى العبور: قصيدة المقالح كتعبير عن لحظة أصيلة في وجدان الأمة العربية

"بكى المقالح وهو يقرأ القصيدة، في مقيله في أكتوبر عام 2016"

في ذكرى عبور الجيش المصري: قصيدة الدكتور المقالح كتعبير عن لحظة أصيلة في وجدان الأمة العربية - فتحي أبو النصر


عظمة ملحمة العبور لا تزال تلهمنا حتى اليوم. لقد كان نصر أكتوبر 1973 لحظة فارقة في تاريخ الأمة العربية، ومصدرا للفخر والكرامة. من خلال قصيدة العبور للراحل اليمني الكبير عبد العزيز المقالح، نرى كيف يمكن للشعر أن يكون صوتا للتاريخ، وكيف يمكن للأحداث العظيمة أن تظل حية في وجدان الأمة عبر الكلمات. قصيدة المقالح هي شهادة على أن الشعر يمكنه أن يخلد اللحظات التاريخية، وأن يلهم الأجيال القادمة بروح الانتصار.

ففي السادس من أكتوبر 1973، شهدت الأمة العربية واحدة من أعظم لحظات تاريخها الحديث، حيث سطر الجيش المصري بطولة خالدة في ملحمة العبور التي حررت سيناء من الاحتلال الإسرائيلي. هذا الانتصار لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان تجسيدا لإرادة أمة كاملة، وبث الأمل في قلوب العرب جميعا، من المحيط إلى الخليج. وبينما انشغل التاريخ بتوثيق هذا الإنجاز، كان للشعراء دورهم في تخليد هذه اللحظة عبر الكلمات، وكان من أبرزهم الشاعر اليمني الكبير د. عبد العزيز المقالح في قصيدته الخالدة "العبور".

إن قصيدة العبور التي أهداها المقالح لأبطال ملحمة أكتوبر، ليست مجرد قصيدة وطنية تحتفي بالنصر، بل هي تعبير صادق عن التلاحم بين المشاعر الوطنية والأحداث التاريخية. منذ اللحظة الأولى، يشعر القارئ أنه أمام نص يلتقط روح تلك اللحظة بدقة متناهية. الصور الشعرية التي رسمها المقالح تحمل في طياتها مزيجا من القوة والأمل والتضحية، حيث يتحدث عن الليل والدماء التي تنهمر كالأمواج، وعن الجيش الذي تحدى الانتظار المر لينفجر في وجه أعدائه، ليصبح الشط نفسه أغنية تعبر عن نشوة النصر.

المقالح بعبقريته الشعرية ربط بين الطبيعة وبين الروح القتالية للجيش المصري. ففي القصيدة، يظهر البحر كعاشق ينتظر المحرر، والشط كحبيبة تأمل في اللقاء بعد ليل طويل من السهر. هذه الرمزية القوية تجعل القارئ يشعر بأن النصر لم يكن مجرد نتيجة لمواجهة عسكرية، بل كان استجابة لرغبة الطبيعة والتاريخ، وكأن الشمس والتاريخ والقدر جميعها تحركت مع الجيش لتحقق النصر.

في لقاء جمع بيني وبين الدكتور عبد العزيز المقالح وأصدقائه مطلع أكتوبر من الأدباء والشعراء في مقيله عام 2016، وقبل مغادرتي صنعاء بثلاثة أشهر، كان للنصر مكانة خاصة في قلب المقالح، حيث طلبت منه وأزرني الحاضرون أن نسمع القصيدة بصوته. تملكتنا كلنا المشاعر العميقة في تلك اللحظة، إذ بكى المقالح وهو يقرأ القصيدة، وكأن كل كلمة أعادت له ذكريات تلك الملحمة الخالدة. تلك اللحظة تبرز جانبا آخر من العبقرية العاطفية للمقالح، حيث كانت القصيدة تجربة شخصية وعاطفية تتجدد كلما تم استدعاؤها في أعصابه.

إن العبور بالنسبة للمقالح لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان آخر لحظة من لحظات الكرامة العربية التي فرضتها مصر في تاريخها الحديث. لقد كانت المعركة تجسيدا لإرادة الأمة في استعادة كرامتها، وكانت سيناء في القصيدة تعبيرا عن قلب مصر وروحها التي لا يمكن فصلها عنها. حينما كتب المقالح: "سيناء من قلب مصر كيف يفصلها / جان وعن روحها

تنبو وتحتضر"، كان يعبر عن حقيقة أن سيناء ليست مجرد أرض جغرافية، بل هي جزء لا يتجزأ من روح الوطن.
على ان المفارقة الكبرى التي نعيشها اليوم هي أن قصائد مثل العبور، التي تجسد روح الأمة والانتصار القومي، تُدرس في المدارس والجامعات المصرية حتى الآن، بينما نرى في مناطق اليمن اتحت سيطرة الحوثيين، يتم حذف القصائد الجمهورية المقالح ما بالكم بالقصائد القومية من المناهج التعليمية.

هذا الحذف يعكس رغبة في قطع الصلة بين الأجيال الجديدة وبين تلك اللحظات الفارقة في التاريخ العربي، التي كانت تجسد وحدة المصير والقضية.

الدكتور عبدالعزيز المقالح
الدكتور عبدالعزيز المقالح بعدسة عبدالرحمن الغابري

والحال لم يكتفِ المقالح في قصيدته بالاحتفاء بالنصر فقط، بل تحدث عن التضحية التي قدمها الجنود في سبيل تحقيق هذا الانتصار. "أشعلوا في الدجى أعمارهم لهبا / للنصر واحترقوا فيه لينتصروا"، هذا البيت يعبر عن أن النصر لم يكن مجانيا، بل كان ثمرة تضحيات عظيمة، دفعت فيها الأرواح لتضيء درب الأجيال القادمة.

إن عبور الجيش المصري في 1973 أذهل العالم بلاشك، وأوقف عنده التاريخ ليسترجع درسا في الإرادة والشجاعة. الشعر في تلك اللحظة كان السلاح الذي استخدمه المقالح ليحارب به النسيان، ويخلد ذكرى الأبطال الذين "تقدّموا عبر ليل الموت ضاحكة / وجوههم وخطوط النار تستعر".

كذلك فإن قصيدة العبور للمقالح تعيد لنا مشهد العبور ليس فقط كحدث تاريخي، بل كتجربة إنسانية كاملة، امتزجت فيها المشاعر الوطنية بالقوة الشعرية. هذا النوع من الشعر لا يموت، لأنه يعبر عن لحظة أصيلة في وجدان الأمة، ولأنه يحمل في طياته تجربة نضجت تماما، وخرجت في أبهى صورها.

وأخيرا، فإن مثل هذه القصائد يجب أن تبقى حية في ذاكرتنا الجمعية، وأن تستمر في تعليم الأجيال الجديدة معنى الكرامة والتضحية.. قصيدة العبور ليست مجرد نص أدبي، بل هي رمز لأمة تقف في وجه التحديات وتنتصر. "وددت لو كنت يوما في مواكب هؤلاء الأبطال، أو كنت جسرا حينما عبروا". ولكني أعلم جيدت أن مثل الشعر هذا هو جسرنا الروحي العروبي الذي يربطنا بتلك اللحظات المجيدة.

تالياً قصيدة العبور:

لا اللَّيلُ في الضِفَّةِ الأخرى ولا النُّذُرُ
ولا الدِّماءُ، كما الأنهارِ، تنهمرُ

ولا الذئابُ، وقد أقْعَتْ على حذرٍ
وحولَها تزأرُ النِّيرانُ، والحفرُ

لا هذه سوفَ تثنينا، ولا خطرٌ
يصدُّ جيشاً دعاهُ الثَّأرُ والظَّفَرُ

جيشاً تمرَّدَ صبراً، في مواقعِهِ
وكادَ في الانتظارِ المرِّ، ينفجرُ

مشى ليثأرَ منْ أعدائِهِ، ومشتْ
في رَكْبِهِ الشمسُ والتاريخُ والقدرُ

يا عابرَ البحرِ، كانَ البحرُ أغنيةً
والشَّطُّ عاشقةٌ تومي، وتنتظرُ

ترنو إليكَ بأجفانٍ مقرَّحةٍ
وقد عبرتَ إليها، وانتهى السهرُ

هبطتَ (سينا) على اسْمِ اللهِ، منتصراً
فَضَوَّأَتْ، واشتوى في نارِها الخطرُ

(سيناءُ) منْ قلبِ مِصْرٍ كيفَ يفصلُها
جانٍ، وعنْ روحِها تنبو وتُخْتَصَرُ؟

ويلَ المطامعِ كم أدمتْ، وكم قتلَتْ
رجالَها العُوْرَ كم بيعوا وكم عُوِرُوا

أحلامُهم تحتِ وجهِ الشمسِ عاريةٌ
أجسادُهم فوقَ وجهِ الرملِ ما قبروا

ظنُّوكِ (سيناءَ) للأغرابِ مزرعةً
وفي رمالِكِ يحلو الصيدُ والثمرُ

تسلَّلوا عَبْرَ ليلٍ لا نجومَ بِهِ
وأصبحوا وُهُمُ السُّمّارُ والسَّمَرُ

لكنّهم حصدوا موتاً، وعاصفةً
وفوقَهم تقصفُ الأشجارُ والمطرُ

تقهقروا خَلْفَهم رُعْباً بلا أملٍ
وقيلَ: لنْ يُقْهَروا يوماً.. وقد قُهِرُوا

تساقطوا كفراشاتٍ ملوَّثَةٍ
في الرَّملِ واحترقوا في النارِ أو أُسِرُوا

يا عابرَ البحرَ ما أبقى العبورُ لنا؟
وما عسى تصنعُ الأشعارُ والصورُ؟

أبطالُنا عبرُوا مأساةَ أمَّتِهم
ونحنُ في كفنِ الألفاظِ نُحْتَضَرُ

تقدَّموا عبرَ ليلِ الموتِ ضاحكةً
وجوهُهم، وخطوطُ النارِ تستعرُ

وأشعلوا في الدُّجَى أعمارَهم لهباً
للنصرِ، واحترقوا فيهِ لينتصروا

عبورُهم أذهلَ الدُّنيا، وموقفُهم
تسمَّرَتْ عندَهُ الأقلامُ والسِّيَرُ

وددْتُ لو كنتُ يوماً في مواكبِهم
أو ليتني كنتُ جِسْراً حينَما عبرُوا.

12 أكتوبر 1973م

زر الذهاب إلى الأعلى