في حياتنا أشخاص رزقهم الله الموهبة بالفطرة فأثروا واقعنا بأعمالهم بمختلف الجوانب وحفروا حبهم ومكانتهم في قلوب الناس حتى ولو لم يعرفوهم أو يقابلوهم فتعدت ابداعاتهم حدود المكان لتبقى راسخة طول الزمن حتى بعد رحيلهم ومن هؤلاء الدكتور والأديب والسياسي السعودي غازي عبدالرحمن القصيبي الذي وافته المنية الجمعة الماضية عن عمر ناهز سبعين عاماً.
لقد كان موت الدكتور القصيبي رحيلاً مفجعاً وخسارة فادحة لحقت بأمتنا العربية والإسلامية لموت هذا الرجل ذي الفكر العربي الإسلامي الأصيل الذي تبنى هموم أمته بنشاط وتفان دون انتماء لمدرسة دينية أو حركة ثقافية أو بقعة جغرافية معينة فقدم أعمالاً ستبقى راسخة وناصعة طول الزمن بشكل خلاصة تجربة رجل سيتحقق أن يكون قدوة ومنارة إقتداء للأجيال القادمة.
شخصياً لم أقابل الدكتور القصيبي أو تواصلت معه، لكني تعرفت عليه في وقت مبكر من حياتي وعمري لا يجاوز الخامسة عشرة وذلك من خلال كتاب له بعنوان "قصائد اعجبتني"، وقد وجدت الكتاب بين عدة كتب في شنطة والدي جاء بها من المملكة العربية السعودية بعد إخراجه القسري منها عقب حرب الخليج الثانية.
الكتاب عبارة عن مجموعة قصائد أبرزها القصيدة الميمية للمتنبي والتي مطلعها واحر قلباه ممن قلبه شبم وقصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي ودمية العريض ومرثية مالك بن الريب وأحلام عبد الصبور، أصدرته مكتبة العبيكان.
وقد أعرب الدكتور في بداية كتابه عن إعجابه بتلك القصائد كونها تمثل له لوناً آخر من ألوان القصيدة العربية التي تتسم مواضيعها وتأثيرها وارتباطها بمناسبات معينة جعلتها خالدة في قلوب العرب فهو يسمعها بأذن هي غير آذان بقية البشر، ويقرأها بعين هي ليست كعيونهم، ويحس بها بإحساس لا يماثله إلا إحساس شاعر.
أكملت قراءة الكتاب وقد أعجبت كثيراً بهذا الدكتور مثلما إعجابه بالقصائد ولأني كنت في القرية حينها فلم استطع معرفة المزيد حوله، لكنه ظل في ذاكرتي كإسم لم أنساه، وكانت المناسبة الثانية التي رسخت إسمه بذاكرتي وبدأت أتابع نشاطه في العام 2002م حينما أصدر قصيدته الشهيرة " يشهد الله" في ابريل من نفس العام عندما كان سفيراً للمملكة في بريطانيا والتي رد فيها على من يحكمون على منفذي العمليات الاستشهادية أنهم انتحاريون وذلك على خلفية العملية الإستشهادية التي نفذتها الفلسطينية آيات الأخرس في 29 مارس 2002م بأحد أسواق القدس الغربية المحتلة ونشرت القصيدة في مجلة المعرفة السعودية وانتقدت الدعاة الذين يحكمون على هؤلاء الاستشهاديين بالإنتحاريين، وقد أثارت جدلاً كبيراً داخل بريطانيا من قبل البريطانيين المحسوبين على اللوبي الصهيوني والذين رأوا فيها تحريضاً على العنف ضد اليهود ولا يجوز أن تصدر من دبلوماسي فقدموا احتجاجهم لدى الملك السعودي فهد رحمه الله وتحت وطأة الضغط والاحتجاج تم إعفاء القصيبي من عمله كسفير وعاد إلى الرياض.
لقد مثلت القصيدة إعلاناً واضحاً من الدكتور غازي عن تأييده لنضال الفلسطينيين وإيمانه بالقضية الفلسطينية بقضية لا تزال الأولى بالنسبة للعرب والمسلمين وقد عكست القصيدة أن أعمال القصيبي ليست منطوية في إطار دولته الأم (السعودية) بل تعدت الحدود لتصبح تلك القصيدة شهيرة جداً وجاءت لتؤكد ان القصيبي كان يميل بفكره بإتجاه اليمين وليس بإتجاه اليسار كما كان يتهمه البعض وقد اعتبر القصيبي القصيدة ثمناً باهظاً لخروجه من العمل في السلك الدبلوماسي والتفرغ لخدمة المجتمع السعودي حيث كلف بعد عودته للسعودية في أكثر من وزارة خدمية وأثبت فيها جدارته بكفاءة واقتدار.
وفي النظر لسيرة هذا الرجل يتضح أنه كان منذ البداية ناضجاً وموهوباً سواء في مجال الشعر أو تحمل المسئولية وقد صنفه معلمه الأديب الراحل عبدالله بن محمد الطائي ضمن الشعراء المجددين، فقد كانت له ميول أدبية جادة، ترجمها عبر دواوين أشعار كثيرة، وروايات أكثر، وربما يعدّ بسببها أحد أشهر الأدباء في السعودية، ويظل رمزا وأنموذجا جيدا لدى الشباب منهم، وقد خاض صراعاً مع مجموعة من المشائخ عندما اصدر ديوانه الشعري الثالث "معركة بلا راية" عام 1970، إذ ساروا في وفود وعلى مدى أسابيع عدة، نحو الملك فيصل لمطالبته بمنع الديوان من التداول، وتأديب الشاعر، فأحال الملك فيصل، الديوان، لمستشاريه ليطلعوا عليه ويأتوه بالنتيجة، فكان أن رأى المستشارون أنه ديوان شعر عادي لا يختلف عن اي ديوان شعر عربي آخر، إلا أن الضجة لم تتوقف حول الديوان واستمرت الوفود بالتقادم للملك فيصل، فما كان منه سوى أن شكل لجنة ضمت وزير العدل ووزير المعارف ووزير الحج والأوقاف، لدراسة الديوان أو محاكمته بالأصح، وانتهت اللجنة إلى أن ليس في الديوان ما يمس الدين أو الخلق، ولا تمر هذه الحادثة في ذهن القصيبي إلا ويتذكر موقف الملك عبدالله بن عبدالعزيز من هذه القضية، إذ يقول غازي: "سمعت من أحد المقربين إليه أنه اتخذ خلال الأزمة موقفا نبيلا وحث الملك فيصل على عدم الاستجابة إلى مطالب الغاضبين المتشنجة".
ومن القصائد الشهيرة له قصيدة (من المتنبي إلى سيف الدولة) والتي رفعها إلى رئيس مجلس الوزراء الملك فهد عام 1984م بعد اعفائه من عمله كوزير للصحة والتي يقول في مطلعها بيني وبينك الف ينعب وقد وصف القصيبي الإعفاء بأنه كان "دراما إنسانية معقدة"، وهناك مؤلفات عدة له احدثت ضجة كبرى حال طبعها، وكثير منها مُنع من التداول في السعودية لا سيما الروايات، ولا يزال فيها ما هو ممنوع حتى هذه اللحظة.
وتوالت الإصدارات بين دواوين الشعر والروايات والكتب الفكرية، ومن دواوينه الشعرية: صوت من الخليج، الأشج، اللون عن الأوراد، أشعار من جزائر اللؤلؤ، سحيم، وللشهداء. ومن رواياته شقة الحرية، العصفورية، سبعة، هما، سعادة السفير، دنسكو، سلمى، أبو شلاخ البرمائي، وآخر إصداراته في الرواية: الجنية. وفي المجال الفكري له من المؤلفات: التنمية، الأسئلة الكبرى، الغزو الثقافي، أمريكا والسعودية، ثورة في السنة النبوية، والكتاب الذي وثق فيه سيرته الإدارية والذي حقق مبيعات عالية، حياة في الإدارة.
وفيما يتعلق باليمن كان للدكتور القصيبي علاقة كبيرة مع اليمن فقد كان عضوا في لجنة السلام السعودية – اليمنية، التي نصت عليها اتفاقية جدة لإنهاء الحرب الأهلية في اليمن، وكان أن رشح اسمه كمستشار قانوني في الجانب السعودي من اللجنة، دون علمه، ليأتي أمر الملك فيصل باعتماد أسماء أعضاء اللجنة، فلم يكن هناك بدّ من الانصياع لهكذا عضوية. ومع أوائل العام 1966 كانت مهمة اللجنة قد انتهت ليعود المستشار القانوني السياسي إلى أروقة الجامعة، وكلف حينها بتدريس سبع مواد مختلفة. وفي 1967 غادر نحو لندن، ليحضّر الدكتوراه هناك، وكتب رسالته تحت مسمى "حرب اليمن".
لقد كان القصيبي بحق رجلاً ذا نشاط لم يتوقف وعطاء لم ينضب وقد أثر وتأثر بالمجتمع ويكفيه ان الله اختاره إلى جواره في أفضل الشهور عنده.
القصيدة الهمزية التي خسر بسببها منصبه كسفير للمملكة في لندن
يشهد الله أنكم شهداء
يشهد الأنبياء والأولياء
متم كي تعز كلمة ربي
في ربوع أعزها الإسراء
انتحرتم؟! نحن الذين انتحرنا
بحياة أمواتها الأحياء
أيها القوم نحن متنا فهيا
نستمع ما يقول فينا الرثاء
قد عجزنا . . حتى شكا العجز منا
وبكينا حتى ازدرانا البكاء
وركعنا حتى اشمأز الركوع
ورجونا حتى استغاث الرجاء
وشكونا إلى طواغيت بيت
أبيض ملء قلبه الظلماء
ولثمنا حذاء (شارون) حتى
صاح "مهلا ! قطعتموني" الحذاء
أيها القوم نحن متنا ولكن
أنفت أن تضمنا الغبراء
قل لآيات يا عروس العوالي
كل حسن لمقلتيك الفداء
حين . . الفحول . . صفوة قومي
تتصدى للمجرم الحسناء
تلثم الموت وهي تضحك بشرا
ومن الموت يهرب الزعماء
فتحت بابها الجنان وحيت
وتلقتك فاطم الزهراء
قل لمن دبجوا الفتاوى .. رويدا
رب فتوى تضج منها السماء
حين يدعو الجهاد لا استفتاء
الفتاوى يوم الجهاد الدماء
السيرة الذاتية
ولد غازي بن عبد الرحمن القصيبي في 2 مارس 1940، وقضى في الأحساء سنوات عمره الأولى، ثم انتقل بعدها إلى المنامة بالبحرين ليدرس فيها مراحل التعليم، ونال ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة ثم حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا التي لم يكن يريد الدراسة بها، بل كان يريد دراسة "القانون الدولي" في جامعة أخرى من جامعات أمريكا، وبالفعل، حصل على عدد من القبولات في جامعات عدة، ولكن لمرض أخيه نبيل، اضطر إلى الانتقال إلى جواره والدراسة في جنوب كاليفورنيا، وبالتحديد في لوس أنجلوس، ولم يجد التخصص المطلوب فيها، فاضطر إلى دراسة "العلاقات الدولية" أما الدكتوراه فكانت العلاقات الدولية من جامعة لندن وكانت رسالتها حول اليمن.
وللقصيبي إسهامات صحافية متنوعة أشهرها سلسلة مقالات (في عين العاصفة) التي نُشرَت في جريدة الشرق الأوسط إبان حرب الخليج الثانية كما أن له مؤلفات أخرى في التنمية والسياسة وغيرها منها (التنمية، الأسئلة الكبرى) و(عن هذا وذاك) و(باي باي لندن ومقالات أخرى) و(الأسطورة ،ديانا) و(100 من أقوالي غير المأثورة) و(ثورة في السنة النبوية) و(حتى لا تكون فتنة)، كما ترجم كتابا للمؤلف ايريك هوفر باسم المؤمن الصادق.
منح وسام الملك عبدالعزيز وعدداً من الأوسمة الرفيعة من دول عربية وعالمية، ولديه اهتمامات اجتماعية مثل عضويته في جمعية الأطفال المعوقين السعودية وهو عضو فعال في مجالس وهيئات حكومية كثيرة.
من المناصب التي تولاها
أستاذ مساعد في كلية التجارة بجامعة الملك سعود في الرياض 1965 / 1385ه
عمل مستشاراً قانونياً في مكاتب استشارية وفي وزارة الدفاع والطيران ووزارة المالية ومعهد الإدارة العامة.
عميد كلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود 1971 / 1391ه.
مدير المؤسسة العامة للسكك الحديدية 1973 / 1393 ه.
وزير الصناعة والكهرباء 1976 / 1396 ه.
وزير الصحة 1982 / 1402ه
سفير السعودية لدى البحرين 1984 / 1404 ه.
سفير السعودية لدى بريطانيا 1992 / 1412ه.
وزير المياه والكهرباء 2003 / 1423ه.
وزير العمل 2005 / 1425 ه.
توفي يوم الجمعة 13 أغسطس الجاري بعد معاناة مريرة مع سرطان القولون.