arpo27

المناضل عبدالسلام صبرة: مشينا ثمانية أيام إلى تعز على الأقدام مكبلين بالحديد

حقيقة تخرج بروح متوثبة غير التي خرجت بها وقد تأملت في عظمة هذا الرجل المسكون بالهم الوطني، المفعم بالهمة العالية، رغم ظروفه الصحية؛ إذ لم يفصل بينه وبين المائة السنة إلا ستة أشهر فقط كما أخبرني..

أضف إلى ذلك ما يعانيه من الشلل النصفي، ومع هذا فهو شعلة متوهجة من النشاط، تحدث معي حينا وأحالني إلى ما كتبه في مذكراته كثيراً، طالبا مني الإشارة إلى ذلك، (لا يقولوا الناس عاد احنا نعمل مقابلات صحفية)..

فإلى شذرات من تلك الصور النضالية التي رسمها الرجل في حياته في اليمن ..

بداية لو اطلعنا على بداية تعليمك؟
بدأت تعليمي الأولي في المعلامة، حيث تعلمت فيها الخط والقرآن الكريم، آخر أيام الأتراك وأوائل أيام الإمام يحي، أولا في معلامة الأبهر ثم معلامة توفيق، انتقلت بعدها وقد بلغت الثالثة عشرة إلى الجامع الكبير، وفيها قرأت علوم الدين والعبادات والمعاملات وعلوم اللغة، ودرست بجامع الفليحي وفيه حفظت متن الأزهار وقرأت شرحه، وعلوم اللغة والتفسير ، وكذا سبل السلام في الحديث، وقد أرشدني والدي قبل وفاته إلى الاطلاع على مؤلفات الشوكاني والوزير والجلال والمقبلي، وكان الوالد رحمه الله يمتلك مكتبة ضخمة ويتابع الإصدارات عن طريق الحج والمسافرين..
كما كان يجيد إلى جانب اللغة العربية الأم اللغة التركية والفارسية والفرنسية ويجيد أيضا نصوص المسند، وقد تخرجت من الجامع الكبير بعد وفاته سنة خمسين هجرية (1930م) تقريباً، وقد أجبرتني الظروف بعد وفاة والدي أن أعمل موظفا في بلدية صنعاء مداوما أولا ثم كاتبا ثم أمين صندوق، ثم رئيس بلدية، وكان الراتب عشرة قروش ثم ازداد إلى خمسة عشر قرشا لاحقاً. ومع هذا فقد كنت اهتم كثيرا بالقراءة والمطالعة ومتابعة الكتب الجديدة، من خلال الأستاذ عبد الله العزب، والأستاذ أحمد المطاع على وجه الخصوص.
كما كانت لي علاقتي الحميمة مع الحاج محمد المحلوي والشيخ حسن الدعيس ناهيك عما كان يربطني بأخي علي محمد صبرة رحمه الله الذي وقف معي بحنان وعطف خلال سنوات السجن كاملة أيام الإمام يحي والإمام أحمد.

ما ذا عن ثورة 48م باعتبارك شاهدا على أحداثها منذ الخيوط الأولى لتكونها؟
ثورة 48م نتاج لما وصلت إليه الأحوال من الظلم والاستبداد الذي كان يمارسه الإمام وأعوانه، حتى وصل الناس إلى درجة اليأس من إصلاح الإمام أو تعديله أو قبوله النصيحة؛ لأنه كان يقابل أي نصيحة بالعنف سجنا وقتلا وتشريدا، كان الإمام موزعا أولاده على المحافظات لا لإدارتها ولكن لابتزازها، أما هو فلا يكاد يغادر صنعاء إلا نادراً، وربما أنه لم يعرف تهامة، خرج ذات ربيع بهي إلى إب وهي المعروفة بخضرتها وجمالها الساحر، فشاهد الحقول والزراعة وبينها تتدفق الغيول فتأوه وقال: "عاد احنا ما عرفنا ما مع الناس إلا اليوم"..

هل كانت لك علاقة شخصية بالإمام؟
لا علاقة لي شخصية حينها بالإمام يحي، صحيح أنه كان يعرفني وكان يرسل إلي ببعض الأوراق المتعلقة، ولكن لا علاقة شخصية لي به. وقد عرفني مؤخرا حين حبسني وذلك لأني كنت ضمن تشكيلة الجمعية اليمانية الكبرى، وحزب الأحرار الذين تأسسا قبل 48م، وكان من ضمن مؤسسيها الزبيري والنعمان والحكيمي والبيحاني، وقد ألقى الزبيري قصيدته يوم إشهار الجمعية بعدن وهي (سجل مكانك في التاريخ يا قلم فها هنا تبعث الأجيال والأمم) وكنت عضوا في الجمعية ومقيما في صنعاء، وعندما وزعنا كتيبا صغيرا يحل برنامج الأحرار قامت قيامة الإمام يحي، فحبس من حبس ونفى من نفى، وكنت ضمن ستة مسجونين منهم أولاد السياغي الثلاثة وهاشم الحروي، وقد فرضوا علينا السفر إلى تعز مشيا على الأقدام وعلينا القيود الحديدة والسلاسل حتى رق لأحوالنا الجنود أنفسهم الذين لم يفعلوا أكثر من قولهم: "نحن مأمورون، لا نستطيع أن نعمل لكم شيئا" وقد استغرق السفر إلى تعز مشيا على الأقدام ثمانية أيام ولم يكونوا يفكوا علينا القيود حتى وقت قضاء الحاجة.
وبرفقتنا العساكر طبعا، وقد وصلنا أولا إلى سجن إب، ومكثنا فيه خمسة أيام دعانا ذات ليلة الأمير الحسن بن الإمام يحي وكان عامل إب آنذاك، وطلب منا الاعتراف برئيس الجماعة، وإلا فالعصا موجودة، فقال له الأخ حمود السياغي والله لو معك عصا من نار افعل ما تشاء، فوجه بسجننا ثم رحلونا اليوم الثاني إلى تعز، وفي تعز استضافنا سجن السيف أحمد، لمدة ما بين عشرة أيام إلى خمسة عشر يوما لا أذكر الأيام بالتحديد، ثم رحلونا بعدها إلى سجن حجة، وقد أضافوا إلينا آخرين كالقاضي عبد الرحمن الإرياني رحمه الله وآخرين حوالي مائة، ووزعونا على سجني نافع وسجن القاهرة، وقد قضى كل منا فترة متفاوتة في السجن.

كم قضيت في السجن؟ ومن تتذكر من الرموز الثورية معك؟
أذكر أني قضيت في سجن القاهرة سنة ونصف، وفي السجن التقينا برموز وطنية عدة من بيت النعمان والباشا، وغيرهم، وقرأنا العديد من الكتب في السجن، وكان النعمان متابعا بصورة جيدة للكتب والصحف التي تصل إليه من الحديدة، ونحن معه كذلك.
وقد خرجت من السجن بعد سنة ونصف. وكان الفضل في قراءة بعض الكتب والحصول عليها يعود بعد الله لمحافظ حجة حينها عبد الملك المتوكل وأولاده؛ إذ كانوا يعيروننا الكتب من مكتبهم الخاصة.

دورك أنت شخصيا يوم الثورة؟
أعتقد أني فصلت ذلك في كتابي، والحقيقة انه بعد فشل الثورة نهبت بيوت صنعاء ومتاجرها كاملة، بل لقد نهبت بعض مساجدها، ولأني من ضمن المطلوبين فقد اختفيت عن أعين العسس عند أحد جيراني وهو المرحوم أحمد حسين الهمداني أياما قليلة، وكانت أختي فاطمة رحمها الله تتردد علي كل يوم لزيارتي، وقد جاءت ذات يوم ومعها إحدى صديقاتها اسمها فاطمة السياني أم الضابط الشهيد أحمد السياني من سنحان، وقالت لي أختي التي تكبرني بالسن بدلا من أن تبقى محبوسا داخل المكان فالأفضل أن تذهب مع فاطمة السيانية لابسا ستارة امرأة حتى توصلك إلى المحل الذي يتوفر فيه الأمان..

سواء في سنحان أو في غيره، أما البقاء في صنعاء فما هو إلا استسلام للموت، وفعلا وافقت على رأي أختي وخرجت مع المذكورة فاطمة السيانية متنكرا بستارة المرأة، وقد مضينا في السير باتجاه حزيز واعترضنا في الطريق بعض القبائل، وقال قائل لنا: "سلبكن يا نساء يفديكن" ومد يده إلى التورة التي تحملها المرأة على رأسها والتي يوجد فيها العيش وخمسون ريالا، وقد احتجت المرأة العجوز "أم أحمد السياني" على هذا التصرف الوحشي، فنطقت أنا بكلمة فعرف الناهبون من صوتي أنني رجل فقالوا "كنك رجال" فقلت: نعم. فقال: لماذا تخفي نفسك بالستارة؟ فقلت: أردنا أن تحترمونا وتتركونا من النهب كالنساء؛ ولكنكم لم تفعلوا، فقال أحدهم غيرنا لا يكتفي بالنهب، وسيأخذك إلى مقام الإمام فاذهب أنت والعجوز، فواصلنا السفر حتى وصلنا إلى قرية حزيز، واستقبلنا أهل حزيز يسألوننا عن الحالة في الساعة الأخيرة في صنعاء، فتلعثمت أم أحمد السياني وعجزت عن الرد وأنا ساكت فتوهموا أننا هاربان، ثم طلبوا مني الكلام، فتكلمت بصوتي وفتحت وجهي، فقالوا "فلان" وأسموني باسمي "عبد السلام صبرة قاتل الإمام" وأخذوني وتركوا العجوز أم أحمد السياني التي عرفوا أنها من سنحان، وألزموني بالتحرك معهم بعد أن ربطوا اليدين وقلت لهم بصراحة: كل ما حصل هو سهل ولكن عدالة الله تمهل ولا تهمل الظالمين وأنهم لن يستمروا في ظلمهم إلى النهاية، والنهاية معروفة، وقد وصلنا إلى باب اليمن يستقبلنا الآلاف من عامة الناس يزفونا بالشتم والصراخ وبالتعزير والدردحة حتى أوصلونا إلى دار السعادة، وبقيت منتظرا مع الناس حتى خرج الحسن من باب الدار يستقبلني استقبال الشامت الفارح..
ثم أمر بطلوعي إلى القلعة مرورا بشوارع صنعاء على الأقدام بين الشتم واللعن واللكم والتعزير حتى وصلت القلعة.(قصر غمدان أو السجن الر هيب كما كان يسمى) وما أن دخلت القلعة حتى كبلوني بقيدين من الوزن الثقيل وقد التقيت حينذاك بالمرحوم العلامة علي يحي عقبات والقاضي الصفي الجرافي وعامل صنعاء حسين عبد القادر وغيرهم ممن سبقني، ثم أطلعوني إلى وادي القصر وأمروا من معهم من الحاضرين أن يضربونا بالعصي ويرجمونا بالحجارة حتى سالت الدماء من رؤوسنا وأجسامنا ونقلونا على سيارة وطافوا بنا على أسواق صنعاء وشوارعها، ونحن على السيارة واقفون على أقدامنا، وكانوا يوقفون السيارة أمام بيت كل واحد منا ليعرضونا على الأهل والأولاد والجيران ليشاهدوا ذلك المنظر الوحشي وما وقع علينا من الضرب والتعزير، وقد هانت علينا كل المواقف ما عدا هذا الموقف. وبعد ثلاثة أيام دعينا إلى خارج سجن القلعة ووضعوا على أيدينا المغالق المضغوطة لتجرح أكفنا كما وضعوا القيود على أرجلنا، وقد واجهنا خارج السجن عامة الناس..

حيث أوسعونا باللعن والشتم والرجم واللكم قبل أن نركب السيارة التي ستسفرنا إلى حجة، خرجنا جميعا من صنعاء وقلوبنا عامرة بالصبر والإيمان ومررنا بمدينة عمران، ولا ننسى أننا وجدنا في عمران من أبناء المشايخ من خفف عنا نوعا من ذلك العذاب ونظروا إلينا بعين العطف والرضا، وأعطونا الأكل وكانوا يطعموننا إياه بأيديهم.. وقد وصلنا إلى حجة وأوقفونا بالقيود والمغاليق ليرانا الذين أعدوا لاستقبالنا من الناس وأولاد الإمام الذين كانوا يشاهدون الأسرى من نافذة قصر سعدان، التابع للإمام، وكان قد نقل الكثير من السجناء إلى سجن نافع ما عدا إمام الدستور عبد الله الوزير، وآل بيت الوزير فقد أبقوهم في القاهرة، وقد تلقينا في سجن نافع الرهيب من خبث السجانين وغلظتهم ووحشتهم ما لا يخطر على البال، فقد صبوا علينا الكلام المؤذي والقاسي، بل كانوا يلقون بالواحد منا إلى الأرض بكل قوة وغلظة، ويضيقون على الأقدام القيود الحديدية والمراود والسك وهو أخبثها.

إلى هذا الحد كان وضع السجن؟
كانت بعض أماكن السجن كالمدافن فكنا لا نرى الشمس طيلة النهار إلا ساعة واحدة وقت الظهر، وكنا نتوسد الحجارة ونأكل الكدم اليابسة على الماء العكر، وقد مات داخل هذا السجن المئات من أهل الزرانيق وتركت جثثهم الميتة والهامدة في بعض الأماكن مركونة لمدة طويلة، وما تم نقلها إلا بعد وصولنا، وقد تم نقلنا بعد ذلك إلى سجن القاهرة. وبالرغم من المآسي التي كنا نواجهها داخل جدران هذا السجن الذي أعد بأقصى قدر من اللؤم والحقد فإنه قد تحول إلى مدرسة تضم نوابغ الفقهاء في التفسير والحديث والنحو والأدب، وقد كان الولد الدكتور عبد العزيز المقالح، وكان في حجة طالبا كان يوافينا بالأخبار اليومية محليا وعربيا ودوليا، وكان له دور في تسهيل دخول بعض الصحف عن طريق من أصبحوا منا وإلينا من شباب الحرس.
وبالمناسبة فسجن نافع هذا قضى فيه الأخ المناضل محمد الفسيل سبع سنوات بعد أن ألقت السلطات السعودية عليه القبض وأرسلته إلى الإمام أحمد.

ما ذا عن أعمالك التي شغلتها بعد قيام ثورة 62م؟
بعد الثورة مباشرة عملت عضوا في مجلس قيادة الثورة، فعضوا في مجلس الرئاسة، ثم عملت وزير شئون القبائل ووزير الأوقاف في آن واحد، ثم المجلس الأعلى للمتابعة فنائبا لرئيس الوزراء للشئون الداخلية. والحقيقة أننا كنا في قلق على مصير الثورة بعد قيامها وكان لا يشغلنا ويطرق بالنا إلا أمر تثبيت الجمهورية فقط الأمنية الوحيدة لنا.

زر الذهاب إلى الأعلى