[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

تطوير التعليم واحتياجات التنمية

د. عبدا لواسع بن سعيد هزا ع المخلافي

 أصبحت عملية تطوير التعليم لمواكبة احتياجات التنمية الحديث الرئيس في كثير من المجتمعات، حيث يُعد التعليم حجر الزاوية في التحدي المعرفي والثقافي الذي تتعرض له الأمة في هذا العصر. ولأن التعليم من أهم أدوات الترفيع في المجتمع وذلك لتوظيفه معيار الجدارة للمفاضلة بين الناس، فالاستثمار في التعليم هو السبيل الضامن إلى بلوغ المركز الاجتماعي المرموق للأمم، وذلك عندما تكون مخرجات التعليم تتناسب واحتياجات سوق العمل والتوظيف... إلخ. ولا يكتمل العرض دون الإشارة إلى أنه قد أضحى الحديث في المجتمعات المتقدمة عن بزوغ مجتمع المعرفة، وسعيها الحثيث إلى تمكين قواعده، وترسيخ أركانه، وتطوير فعالياته، والتفاعل مع مُقتضياته. يُعد التعليم المستمر مدى الحياة من أبرز معالم مجتمع المعرفة، ولذا فإنه لا يمكن تحقيق النقلة النوعية المطلوبة نحو التنمية إلا عبر تعليم جاد يستوفي مقتضيات المجتمع المعرفي ويلبي متطلباته وآماله.

     فالتعليم في بلادنا بحاجة ماسة إلى نقلة نوعية في الأهداف والمحتوى والأداء والمخرجات، ونستطيع أن نتلمس الأبعاد الحقيقية لمضامين تطوير التعليم، والتناغم مع شروطه، بالاعتراف بأبعاد التحديات التي تواجه المسيرة الوطنية على مختلف الأصعدة. ومن أهم تلك التحديات ذلك التدافع المجتمعي المنطلق بالضرورة نحو حسم قضايا المجتمع نفسه في اتجاه التوافق مع متطلبات العصر واحتياجاته الفعلية. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال دراسات وأبحاث متعمقة تلامس هذه التحديات وتتعامل معها وتخرج لنا بحلول علمية من خلال إستراتيجية تربوية تعليمية تراعي الاحتياجات الخاصة للمعاقين، من ضمن ما تقوم عليه من مرتكزات محورية مثل تطوير المناهج التعليمية، إعادة تأهيل المعلمين والمعلمات، تحسين البيئة التربوية والتعليمية، إعادة هيكلة المؤسسات التعليمية.

       وفي هذا السياق يسرنا أن نضع هذه المرئيات لعلها تسهم في تطوير التعليم أو تشكل نقطة ضوء لدى القيادات التربوية، وصانعي القرار التعليمي في بلادنا وهي كالتالي:

أولا: في مجال التعليم الأساس

     من مستلزمات تطوير التعليم الأساس أن نضعه في إطاره الصحيح، وذلك عبر التأمل الواعي والتوظيف السديد لكل الإمكانات والقدرات المتاحة من خلال الخطط التربوية والتعليمية المبنية على: تحديث المناهج التعليمية. إعادة تأهيل المعلمين والمعلمات، وتحسين البيئة التربوية، وتقديم برامج النشاط اللاصفي، لتقدم لنا هذه المرحلة التعليمية مخرجات مؤهلة للانتقال للتعليم الثانوي (التخصصي)، وسيتم تحديد القبول للطلاب والطالبات بناءً على امتحان القدرات؛ الذي سيسهم في عمليات التقويم، إضافة إلى قياس بعض الأنماط الأخرى كالموهبة والمهارة والميول والرغبة، إضافة لذلك سيأخذ السجل العلمي للطلاب والطالبات في الاعتبار، على أن يكون الدارسون قد أتقنوا المهارات المطلوبة والتي من أهمها: إتقان المهارات الحاسوبية والوسائط المتعددة والتعامل مع الشبكة العنكبوتية"الإنترنت" والمهارات اللغوية والقرآن الكريم (تلاوة وحفظا) وغرس القيم الوطنية والإسلامية؛ من خلال التربية الوطنية التي تنمي روح الانتماء للوطن أرضا وإنسانا، والاعتزاز بالعقيدة والالتزام بالسلوك الإسلامي، وتعميق أهداف الثورة اليمنية في وجدان الأبناء والبنات وأحاسيسهم...إلخ، إضافة لمادة الثقافة المجتمعية التي ينبغي أن يكون منهاجها متدرجا حسب المراحل العمرية ومتضمنا: حقوق الإنسان وواجباته، وكيفية التعامل مع الآخر (منها التعامل مع السياح) وثقافة التسامح والحوار، ومن مفردات هذه المادة مفهوم الشرطة المجتمعية، وقضايا الإرهاب والعنف والتعصب، والبيئة والمحافظة عليها، ومفهوم الحكم المحلي في إطار تعزيز الديمقراطية ضمن منظومة النظام السياسي.

ثانياً: في مجال التعليم الثانوي ( التخصصي )

     هذه المرحلة التعليمية مفصلية فمخرجاتها تشكل إنجازات أساسية لها أولويتها في سوق العمل لمن سيقف عند هذه المرحلة ومن ثَم سيأخذ دبلوماً تطبيقياً مهنياً من كلية المجتمع، وأيضا تعد هذه المرحلة استثماراً اقتصادياً واجتماعياً لمن يرغب في مواصلة تعليمه الجامعي. وفي هذا الاتجاه نرى أن تعاد هيكلة وصياغة هذه المرحلة التعليمية ومنهاجها الدراسي وفق المسارات التالية:

- الثانوية العامة للعلوم الصحية.

- الثانوية العامة للعلوم التقنية والفنية.

- الثانوية العامة للعلوم الإدارية.

- الثانوية العامة للعلوم الشرعية.

- الثانوية العامة للعلوم الإنسانية.

ثالثاً: كليات المجتمع

     لن نتمكن من بلوغ مجتمع المعرفة والتفاعل بإيجابية وبكفاءة عالية مع المعطيات التنموية إلا بشرط أن تكون المخرجات لكليات المجتمع صالحة لسوق العمل التخصصي بكل اقتدار وكفاءة عالية؛ ولهذا ينبغي أن تمنح هذه الكليات خريجيها شهادة الدبلوم التطبيقي بعد الثانوية العامة، وشهادة الدبلوم العالي بعد البكالوريوس، وأن تكون هذه الكليات هي الجهاز المتخصص بتنفيذ البرامج التدريبية والتطبيقية في كل المجالات، سعياً لرفع كفاءة العاملين والارتقاء بمستواهم وصقل مهاراتهم وتنمية قدراتهم؛ ليكونوا عناصر فاعلة في العمل والإنتاج في القطاعات الحكومية والخاصة كافة، وأن يكونوا قادرين على تغطية حاجة السوق المحلي من الوظائف والاحتياجات المهنية والتجارية.

     وتواصلا مع مسيرة التطوير والتحديث فلا بد من إنشاء كليات المجتمع في محافظات الجمهورية وفي جزيرة سقطرة، وإعادة تشكيل ما هو قائم من الكليات – هيكلة ونظاماً وأسلوب أداء – كما يتم دعمها بالكفاءات العلمية المؤهلة بما يمكنها من مسايرة التقدم العلمي والتقني الذي يعيشه العصر.

رابعاً: في مجال التعليم الجامعي والدراسات العليا

     هذا المستوى من التعليم يُعد استثمارا طويل المدى لتلبية الاحتياجات من الدراسات الجامعية والعليا وتمنح مخرجاته شهادة البكالوريوس والليسانس ودرجة الماجستير والدكتوراه، في مجالات العلوم المختلفة؛ ليكون الخريجون عناصر فاعلة في العمل والإنتاج في القطاعات والمؤسسات الحكومية والخاصة بما يتناسب وسوق العمل التخصصي، وهذا يعني أنه لا بد من إعادة هيكلة الجامعات الحالية، وإنشاء أخرى يكون لها من التخصص الدقيق ما يؤهلها ويمكنها من مسايرة التقدم العلمي والتقني الذي يعيشه العصر.

فلا نريد لجامعاتنا أن تكون استنساخاً من بعضها البعض ومن ثمَّ يكون لدينا مخرجات تراكمية تعمل على زيادة البطالة بدلاً من الإسهام في حلها ويطلق عليها غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع، ومن هنا لعل احتياجاتنا تتبلور في التالي:

أولاً: الجامعات الأم – جامعة صنعاء وجامعة عدن – تكون الكليات فيها متكاملة وشاملة لأغلب التخصصات العلمية.

ثانياً: الجامعات الحكومية الأخرى يتم تشكيلها– هيكلة ونظاماً وأسلوب أداء – كما يتم دعمها بالكفاءات العلمية المؤهلة، وتوزيعها في المحافظات ويمكن فتح فروع لهذه الجامعات في المناطق حسب الحاجة لذلك، على أن يتم تخصص كل جامعة في مجال معين فتكون على النحو التالي:

- جامعة العلوم الإنسانية ( تتخصص في: اللغات، العلوم الاجتماعية؛ الاجتماع، الإعلام، الاقتصاد، العلوم السياسية، علم النفس، الجغرافيا والبيئة، التاريخ، الآثار والمتاحف، السياحة والفندقة... ).

- جامعة العلوم الشرعية والقانونية ( تتخصص في: الشريعة، أصول الدين، الحقوق، القانون والأنظمة... ).

- جامعة العلوم الصحية ( تتخصص في: الطب البشري، طب الأسنان والتجميل، الصيدلة... ).

- جامعة العلوم الطبية التطبيقية ( تتخصص في: التمريض، المختبرات، الأشعة، البصريات، الأجهزة والتقنيات الطبية، صحة المجتمع، التأهيل الصحي، الفيزياء الطبية... ).

- جامعة العلوم الإدارية ( تتخصص في: الإدارة، العلوم التجارية والمالية والمصرفية...)

وهكذا نحتاج إلى العديد من الجامعات النوعية منها أيضاً:

- جامعة للعلوم التقنية.

- وجامعة للعلوم الزراعية والبيئية.

- وجامعة للعلوم الهندسية.

- وجامعة لعلوم الطاقة والبترول.

- وجامعة لعلوم البحار.

- وجامعة لعلوم الثروة السمكية.

- وجامعة للعلوم الحيوانية والبيطرية.

- وجامعة لعلوم الأرض،.. وغيرها.

خامساًً: لغة التعليم

      يحتاج التعلُم للإنسان القادر على أن يتفاعل بلغته وثقافته وهويته مع معطيات العصر ومستجدات المعرفة بحيث يشارك في استيعاب المعرفة وإنتاجها وتوظيفها في المجالات العلمية المختلفة. ومن المعلوم أن اللغة هي وعاء الفكر القادر على تشكيل المفاهيم وبلورة التفاعلات وتعميق الرؤى. لذا كانت اللغة الأم هي الوسيط الأكثر فعالية لتأسيس مجتمع المعرفة، ومن هنا نؤكد أن لغتنا العربية الأم هي لغة العلوم والمعارف وبها القرآن الكريم أُنزل بل هي لغة أهل الجنة.

     ومن ذلك المنطلق العملي، وقبل أي اعتبار آخر يصبح من أهم شروط الولوج إلى مجتمعات المعرفة أن تكون اللغة العربية قوام التعليم وعماده، بل أداة المعرفة والناقل للثقافة والتراث والبيئة التكوينية لمجتمعنا المعرفي. وأن تتفاعل بحيوية مع معطيات العصر وتجليات الفكر العلمي، فلا يجوز بحال نفي اللغة العربية إلى خارج العصر، وإقصاؤها من عمليات التحول الكبرى على طريق مجتمع المعرفة، بحجج هيمنة اللغات الناقلة للمعرفة، في حين نجد أن الدول الأخرى تحرص على أن يكون التعليم في جميع مراحله باللغة الأم التي أبدعوا من خلالها وتفوقوا في علومهم واختراعاتهم كما في اليابان والصين وروسيا وألمانيا وفرنسا وماليزيا... إلخ. وكما هو الحال أيضا لدى اليهود - الذين هم ليسوا عنا ببعيد – فقد استطاعوا إحياء اللغة العبرية بعد أن كانت لغة ميتة لمئات السنيين، فجعلوها لغة العلم عندهم – بعد أن ترجموا العلوم إلى لغتهم- لإدراكهم أن الاعتماد على لغة أخرى سيجعلهم يبتعدون عن حضارتهم وتراثهم وثقافتهم، في حين نجد عندنا - في يمن الحكمة والإيمان منبع العربية وموطن العرب الأول – تتجه جامعاتنا في تدريس العلوم باللغات الأجنبية؛ خاصةً تدريس الطب والهندسة والتقنيات الحديثة.. إلخ، وهناك من يبرر ذلك بأنه سوف يصدر مخرجاته لسوق العمل الخارجي، وهذا مبرر واهٍ أوهى من نسج العنكبوت، فالدول المستقبلة للعمالة الوافدة هي المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج العربية، وهؤلاء عرب أقحاح مثلنا فلا يحتاجون إلا للمهارة والعلم والمعرفة بلغتهم العربية الأم ولمن يشاركهم في تراثهم وقيمهم.. إلخ بل إن تفضيلهم للعنصر اليمني مبني على هذا الأساس. ومن هنا نوصي بوضع السياسة اللغوية اللازمة لتعريب التعليم الجامعي،وتفعيل القرارات والتوصيات المتكررة في هذا الجانب؛ حيث إن أغلب جامعاتنا العربية تنص أنظمتها على أن اللغة العربية هي لغة التدريس. إضافة إلى ذلك تؤكد توصيات مجمع اللغة العربية على أهمية تعريب التعليم الجامعي، وإن كثيرا من الدراسات قد أثبتت أن التعليم باللغة الأم تؤدي إلى نتائج أفضل من التعليم باللغات الأجنبية.

     وبهذه الرؤية لمفهوم الثقافة التنموية، تصبح التنمية قيمة ثقافية وفكرية وسلوكية واجتماعية لتقديم مخرجات تعليمية وقدرات بشرية تحترم مهنها، وتطور مهاراتها، وتهتم بالإتقان، وتُعنى بتوظف الإمكانات والموارد نحو التنمية.

وهنا تبرز أهمية الثقافة العلمية التي تنطلق من الثقافة التنموية الشاملة؛ ويصبح نشر الثقافة العلمية، وتنمية الانتماء الوطني والعقدي جزءا محورياً من عملية التربية والتعليم التي تطمح إلى تجاوز التعامل السطحي مع العلوم والتقنية، وتنشد تهيئة تربة خصبة لإنتاج علماء ومهارات وكفاءات قادرة على التعامل الإيجابي مع متطلبات مجتمع المعرفة عبر التطوير النوعي لتفكير الفرد، وتعميق قيمته الذاتية، وتنمية الحس العلمي لديه، ورفع درجة إسهامه الاجتماعي.

     وبذلك لن يكون بيننا من يسيء إلى الوطن والمواطن أو من يتاجر في قضايا دينه ووطنه، ولن نحتاج إلى حُراس للفضيلة، وأوصياء على المجتمع وقيمه، قدر ما نحتاج إلى الشرطة المجتمعية التي يمكن أن تكون في إطار الحكم المحلي في المحافظات، وبهذا التحصين سيتمثل فينا قوله سبحانه وتع إلى " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولائك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم " سورة التوبة، الآية 71  

*البريد الإلكتروني:
[email protected]  
[email protected]

 * باحث وأستاذ جامعي   

زر الذهاب إلى الأعلى