أكاد أشم رائحة تعبهم في المقعد الأخير في البيجو –غالباً ما يجلس الطلبة في مقعد البيجو الأخير- في يوم آخر يمكن أن يضم ذلك المقعد أربعة قرويين في طريقهم إلى صنعاء بحثاً عن عمل –قالوا إن في صنعاء عمل-..
لا راكب بيجو يدري بالضبط طبيعة هذا العمل ولا يحمل خبرته القادرة على منحه بعض التأكيدات. فهو لم يعمل مسبقاً في "كنديان نكسن" وكل ما عليه هو الوصول إلى صنعاء مجدداً وتقديم أوراقه لدى "توتال".
لا ضمانات لدى الطلبة ولا الخريجين إنه راكب فحسب.. يفكر في لوكندات أهل البلاد، ويتذكر الهدف الذي أحرزه اللاعب المصري (جدو) في مرمى منتخب أفريقي ما- وحصل جدو على الوجود كاملاً- يصلون صنعاء والرئيس يخطب عن متآمري الجنوب وعن الضرب بيد من حديد وبودهم لو يكونون ولو جزءاً من هذه اليد الحديد –أعرف نمط التفكير هذا- وأظنني خبرته، لقد سعيت في نهاية رحلة بيجو من هذا النوع لأن أصبح جندياً في قطر.
إذ كان وضعي في اليمن قد أصبح متأزماً تماماً.. وتخيلت أناقة بدلاتهم العسكرية وكيف أنني أعسكر على مشارف الدوحة وأذهب آخر كل شهر لأستلم الريالات القطرية القليلة التي ستتحول إلى ريالات يمنية كثيرة، أرسل أغلبها إلى البلاد وأحصل على وجودي.
كنت أقرأ أثناء هذا الحلم عن شاب في جنوب مارسيليا شخبط وعيه الباطن على جدار فأصبح مشهوراً وحصل على وجوده، يسمع الشبان الآن عن بيل جيتس، وتلح على أذهانهم أفكار الكفاح والإصرار على الوصول إلى تخوم الحلم بالمغالبة فيعتقدون أنفسهم متقاعسين ربما، ويصبح الدأب أشبه بتضخم الغدد بدون أسباب وجيهة.
كيف يحول الفتى البعداني دأبه إلى وجود في بلد لا تعي ذاتها ولا تعطي شيئاً سوى الخذلان.
لقد حصل بيل جيتس على هذا الوجود التقني الهائل لأنه ركض في سهول أمريكا المفتوحة وثابر حيث الكم الملائم من رقائق السليكون وحيث الحياة الأمريكية في انتظار أجيال جديدة من البرمجيات.
يقضي ركاب البيجو ليلتهم الأولى في فندق بشارع تعز، الليلة الثانية عند واحد معروف، ثم اللوكندات والاقتراض ويسمعون عن صعدة وحاجة الفرقة الأولى لمجندين جدد.
أيام فكرت في التجنيد بقطر لم أكن أجيد شيئاً غير هذه المهنة اليمنية العريقة.
ولم يخطر لي البتة أنه بالإمكان تحويل الكتب التي في رأسي إلى عمل وكانت اليمن تمر إلى جواري كلها ولا أحد يحمل ذنب وضعي المتفاقم لأنني لم أتعلم شيئاً غير الشعور بالذنب.
كان الرئيس أيامها يرسل أناساً كثيرين لمراجعة البيض المعتكف في عدن، ولم أشعر أنه على أحد أن يراجعني أو يراجع مستقبلي ويوم انفجرت حرب 94م فرحت بالخلاص من البحث عن عمل، وأنا اليوم أشعر بهم يكررون رحلتي في قاع جهران، يخطر لأحدهم أنه ذكي ربما ويفكر بتفاؤل بصدفة أن يقدم طلب هجرة في السفارة الأمريكية.
الحياة هناك في أمريكا حيث الدولارات وأسعار الصرف المذهلة دون أن يجنح أحدهم للسير وراء إمكانات الحياة في دنيا الحرية الأمريكية حيث الانعتاق الكلي ليس من البطالة وليس من تجاهل الرئيس لمشكلة جيله بل إن ما أظنه كارثي حقاً هو أن ركاب المعقد الخلفي في البيجو لا يجرؤون على الحلم بالسفر إلى أمريكا ليصبح أحدهم رئيساً ويعتقد أن قصة أوباما عرض مشوق من نوع ما، ويظنون قصة شاب سرد على الناس في باريس قصة طفولته المعذبة وحصل على وجوده هي من عجائب بلدان التقدم والبنات العاريات. ويحسبون قصص النجاح تلك ضرباً من الميتافيزيقا الموازية لمصادفات الحظ والرزق في اليمن.
لقد وصلنا إلى المرحلة التي لا يمكن لأحد هؤلاء الحياة بدون شروط الماضي عليه ارتداء قبع شيخ أو بدلة ميري وأن يقدم أوراقه في اللجنة الدائمة أو في مصلحة شؤون القبائل أو يقدمها لعلي محسن.
تقاديم تقاديم، شهائد تتقدم على استحياء ولا شيء يدعو للشغف والتفاقم الإيجابي وفرك اليدين أمام فرصة.
الذين قاموا بركلات مذهلة في مباريات الناشئين اختفوا من حياتنا، واللوحات يشتريها السواح من فتيان يرسمون مقارم صنعانيات لم يحتفل أحد بالأول على الجمهورية في اختبارات الثانوية ولا أحد يدري أين ذهب الأول على الجمهورية؟ هل ندين رأياً عاماً لا يقتاد الصحافة إلى حيث ينبغي عليها وضع صور الموهوبين على غلاف (النيوزويك)؟ ربما لأنه ليس لدينا (نيوزويك) وربما لأن بلادنا إلى جوار بلدان النفط، وعليها أن تبقى البلد الفقير -الكائن عاثر الحظ- الذي يمضي حياته في رجاء اللطف المصاحب للمصيبة.
كل الذي ينبغي لأبناء رجال الماضي هو العودة من الدراسة في الخارج، وسينجحون تماماً ويحصلون على وجودهم كاملاً.. عليهم التموضع فقط.. دون أن يفكروا ولو قليلاً بالمكان الذي سيقضي فيه ركاب البيجو ليلتهم الثانية.