آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

غياب الاعتدال الشيعي

المجتمع الشيعي، مثل السني، يعيش زمن حكم رجال الدين. ورجال الدين في داخلهم طيف غني بالألوان، يختلفون في داخلهم بين المعتدلين والمتطرفين.. بين المجددين والمحافظين، وبين دعاة الإصلاح وطلاب الحكم.

وعندما غيب الموت السيد محمد حسين فضل الله تذكره الجميع، لأنه بغيابه سقط علم من أعلام الاعتدال في الساحة الإسلامية.

نتذكر الشيخ فضل الله ليس باعتداله فحسب، بل أيضا بشجاعته السياسية؛ فهو من قلة من علماء الشيعة الذين رفضوا ولاية الفقيه لاحقا، التي تعطي المرشد الأعلى سلطة قدسية كاملة. ورفض إطاعة الولي الفقيه يعني عمليا رفض الحكم الإيراني، الذي أراد من خلالها حكم كل شيعة العالم بصلاحيات إلهية. وولاية الفقيه تمر اليوم بأزمة خطيرة في إيران نفسها.

وحكم الولي الفقيه يمر بأزمة، حيث تمرد عليه عدد من أبرز رجال الصف الأول من رجال الدين الشيعة أنفسهم. وعندما رفض الشيخ فضل الله ولاية الفقيه آنذاك كان يخاطر بحياته.. كل من تجرأ حينها وشكك في التبعية للمرشد الأعلى، انتهى في إقامة جبرية، أو منبوذا في مجتمعه. وليس سرا أن السيد فضل الله أبعد بسبب ذلك عن قيادة المجتمع الشيعي اللبناني على الرغم من أنه أعلى رجال الدين في لبنان مرتبة، واستولى على القيادة من ساروا في ركب طهران وانحنوا للولي الفقيه الجديد.

ومثقفو الشيعة، مثل مثقفي السنة، يعانون من التطرف الديني الذي يهيمن على ساحتهم.. يستهدفهم بالتكفير والملاحقة الفكرية. إلا أن مثقفي السنة ربما أكثر شجاعة في وقتنا الحاضر، وأعلى صوتا.. ينقدون مراجعهم ورموزهم الدينية أكثر مما نسمعه ونراه في الساحة الشيعية. هناك جدل واسع في الساحة السنية، بما فيها المجتمعات المحافظة الخليجية التي تمر بظاهرة نادرة من الجدل والاعتراض والرفض. والمثير أن دائرة النقاش اتسعت ودخلها رجال دين سنة متنورون يشاركون في الجدل لا يترددون في إعلان اعتراضهم والإصرار عليه.. وسعوا بذلك دائرة النقاش، بل هم قادة التغيير الفكري.

وليس غريبا أن بروز القيادة الدينية في المجتمع الشيعي، تحديدا بظهور آية الله الخميني زعيم الثورة الإيرانية، أثر كثيرا على رجال الدين السنة، الذين سعوا لتوسيع دائرة حضورهم ونفوذهم في مجتمعهم. وقد حال دون نجاح الزعامات السنية أنها تعاني من إشكالية في جذر التفكير السني، وفي هيكلها أيضا، حيث لا توجد قدسية ولا تراتبية، ولا يحصل رجال الدين فيها على الخمس بخلاف نظرائهم على الضفة الشيعية.

وجاءت شجاعة السيد فضل الله حالة نادرة، خاصة أن المجتمع الشيعي اللبناني الذي كان ليبراليا قبل الثورة الإيرانية، وقيادته كانت مدنية، قد تراجع بفعل التأثير الإيراني واستيلاء رجال الدين على دفة القيادة.. تبنوا طروحات الطائفة المحرومة من الحقوق والمنافع. ولا يزال حزب الله قلعة المتطرفين الشيعة، ويرتبط بعقد ولاية الفقيه مع إيران. وزاد نفوذ حزب الله، ومعه اتسعت دائرة نشاط رجال الدين في لبنان حتى همش كثيرا الصوت الشيعي الليبرالي الذي لا بد أنه يعاني، مثل الليبرالي السني، من الهيمنة الدينية والسياسية.

الشيخ فضل الله لم يكن علما في رفض تقديس رجال الدين فحسب، بل علما في الدعوة إلى بناء مجتمع ديني معتدل.. قاد الحديث عن الانفتاح على السنة والتحاور معهم، وحرض المرأة على حقوقها قائلا إن صفعك فاصفعيه بالمثل، ونصح المسلمين في أوروبا بالامتثال لقوانين بلدانهم مهما وجدوها مخالفة لرغباتهم الدينية.

زر الذهاب إلى الأعلى