من السمات التي ميزت تاريخ العرب قبل الإسلام ولا أقول في العصر الجاهلي إلا إذا أسترسلتُ في تعليل ذلك وهذا ليس الآن محِلهُ، وكذلك بعد الإسلام بلاغتهم العربية التي تميزوا بها وقتئذٍ، فجاءت قصائدهم الشعرية على مستوى عالٍ من الرصانة اللغوية، ونثرهم على طبقات جميلة من التفنن في أستخدام السجع.. إلخ
من الفعاليات اللغوية الأخرى، وقد تنبه أبناءُ العربية في وقتٍ متأخر في جمع شتات هذه الفنون العربية التي أنفرد بها أهلنا في كتب خاصةٍ تنتظر على الرفوف مَنْ يقلب صفحاتها، ويقرأ سطورها، ويتمعن في كلماتها، ويتدبرُ في أحداثِها..
بعد أن قامت الدنيا وترفض القعود على أبناء الإسلام بشكل عام والناطقين بالضاد بشكل خاص، حيث أخذ هذا الانقلاب من أعدائهم وهم كُثرُ أشكالاً مُتعددة تجتمع وتلتقي جميعها في غايةٍ وهدفٍ واحد ألا وهو جعل أبناء الإسلام والناطقين بالضاد في دوامة مُستمرة لا تتوقف في انشغال بما يتم اختلاقه من مشاكل، وافتعال للأزمات، وتأجيج للفتن.. ألخ وبذلك وغيره الكثير يُبعدونهم عن متابعة التطور أياً كان ميدانه الذي عمّ الدنيا بجميع جهاتها.
ومُساهمةً متواضعةً منا في عرض تاريخنا العربي البلاغي على قراء (صحيفة الصوت) الكرام من أجل إعادة إيصال صوت العرب البلاغي إلى أبناء جلدتنا الناطقين بالضاد فقد وجدنا أن نختار بين حين آخر نموذجاً بلاغياً عربياً متميزاً ينشر على صفحات هذه الجريدة العربية المتميزة بشجاعتها في التعامل مع صوت الحق، وبوطنيتها الفائقة المستلهم من تاريخ أجدادنا العظام، وأمانتها في عرض الآراء الحرة لقرائها.
وفي أول نموذج لغوي نعرضه أدناه يتلخص في أن الحارث بن عمرو ملك كندة سمع بجمال امرأة من قبيلة بني شيبان، ومما شدّه لها، ليس تفردها بالجمال، وإنما تزامن معه الحلمُ والعقل، فكان الجمال الأعظم المُتمثلُ بالجمال + الحُلمُ والعقل، تلك هيّ المدعوة (أُم إياس)، ولكي يطمئن الحارث مما بلغه أرسل إمرأةً أخرى اشتهرت بقدرتها الفائقة في استخدام اللغة العربية، والتفنن الفائق في توظيف مفرداتها في مواضعها الصحيحة، تلك هيّ العربية الأصيلة (عصام الكندية)، فالتقى الجمال الأعظم، بالرصانة اللغوية الأمتن، فنتج عنه القطعة النثرية الوصفية الأجمل التي زينتها (تخللتها) أمثُالها العربية البليغة التي هي نتاج علم لغوي موفور، وسرعة بديهيةٍ فطرية، نورد نصها أدناه:
وصف عصام الكندية أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني(*):
((لما بلغ الحارث بن عمرو ملك كِنْدَة جمَالُ أُم إياس بنت عوف بن مُحلم الشيباني، وكمالُها وقوة عقلها، أراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من كندة، يُقال لها عِصاَم، ذات عقل ولسان، وأدب وبيان، وقال لها، أذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف، فمضت حتى انتهت إلى أمها أُمامة بنت الحارث، فأعلمتها ما قَدِمت له، فأرسلت أمامة إلى أبنتها وقالت: أي بُنية، هذه خالتك أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنِك، فلا تَستُرِي عنها شيئاً أرادت النظر إليه، من وجه وخلق، وناطِقيها فيما أسْتنطَقتكِ فيهِ، فدخلت عصام عليها، فنظرت إلى ما لم تَرَ عَينُها مثلِهُ قط بهجةً وحُسناً وجمالاً، فإذا هي أكمل الناس عقلاً، وأفصحهم لساناً، فخرجت من عندها وهي تقول: (تَرَك الْخِدَاعَ مَنْ كَشَفَ القِنَاعَ) فذهبت مثلاً، ثم أقبلت إلى الحارث فقال لها: (ما وراءكِ يا عِصامُ) ؟ فأرسلها مثلاً، قالت: (صَرحَ الَمخْضُ عن الزبْد)، فذهبت مثلاً، قالت أُخبرك صدقاً وحقاً:
" رأيت وجهاً كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك، كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خِلْتَه السلاسلَ، وإن مَشطتْه قلتَ عناقيدُ كَرْمٍ جَلاَهاَ الوابلُ، وحاجبين كأنهما خُطا بقلمٍ، أو سُودا بحُممِ قد تقوسا على عيني الظبية العَبهرَة التي لم يرعُهْا قانص، ولم يُذعِرها قَسْورة، بينهما أنف كَحد السيف المصقول، لم يَخنِس به قِصَر، ولم يمض به طول، حَفت به وجنتان كالأُرجُوَان في بياض محضٍ كالجمان، شُق فيه فم كالخاتمِ، لذيذ المُبتسَم، فيه ثنايا غُرٌ، ذوات أُشُرٍ، وأسنَانٌ تبدو كالدُرر، وريق كالخمر له نَشْرُ الروض بالسحَرِ، يتقلب فيه لسانٌ ذو فصاحة وبيان، يحركه عقلٌ وافر، وجواب حاضر، تلتقي دونه شَفَتان حمراوان كالورد، يَجلِبان ريقا كالشهدِ، تحت ذلك عنق كإبريق الفضة، رُكب في صدر كصدر تمثال دُمية، يتصل بها عضُدان ممتلئان لحماً، مكتنِزان شحْماً، وذراعان ليس فيهما عظمٌ يُحَسُ، ولا عِرق يُجس، رُكبت فيهما كفان، دقيقٌ قَصَبهُمُا، لينُ عَصَبهُما، َوتُرَكبُ الفصوصُ حُفر المفاصل، وقد تربع في صدرها حُقان، كأنهما رُمانتان، يَِخْرِقان عليها ثِيابَها، تحت ذلك بطنٌ طُوِي كطي القُباطي المُدْمجةِ، كُسي عُكناً كالقراطيس المُدْرَجَة تحيط تلك العُكنُ بِسُرة كمُدْهُنِ العاج المجْلو، خلف ذلك ظهرٌ كالجدولِ، ينتهي إلى خصرٍ، لولا رحمةُ اللهِ لانْبَتَر، تحته كفلٌ يُقعدها إذا نهضت، ويُنهضها إذا قعدت، كأنه دِعْصُ رملٍ ، لَبدَه سقوط الطل، يحمله فخذاوان لَفاوَان، كأنهما نضيد الجمان، تحتهما ساقان، خدلتان كالْبرْدِى، وشُيتاَ بشعر أسود، كأنه حِلق الزرَد، يحمل ذلك قدمان، كحذو اللسان، فتبارك الله مع صغرهما كيف تطيقان حملَ ما فوقهما، فأما ما سوى ذلك فتركت أن أصفه، غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر" فأرسل الملك إلى أبيها فخطبها، فزوجه إياها.)).
ماذا يتطلبُ منا ونحن تقرأ النصين االلبلاغيين أعلاه....؟!
يتطلب منا معشر العرب أنْ نبقى في تواصل مع تاريخنا العربي بشكلٍ عام، وبلاغتنا العربية بشكل خاص لكي نحافظ على ذلك التاريخ النير والمُشرق الذي تسعى الصهيونية المُغاليه، والإنجليلية المُتطرفه، والفارسيه الحاقده تغييب هويتنا العربيه، من خلال طروحات شعوبية لا أصل لها...
بذات الوقت الذي يتطلب منا أنْ نًشارك عوائلنا في هذا الأمر، وجعلهم في تماس مع تاريخهم العربي من خلال جعلهم في حال من التواصل مع مثل تلك النصوص البلاغيه والتي على شاكلتها...
كما يتطلب منا ترويج مثل هذه النصوص من خلال سعينا الحثيث إلى نشرها وترويجها بين أصدقائنا، ومعارفنا و...إلخ. وهذا لا يُمثل إلا خطوه أوليه صحيحه على مسارات العوده لتاريخنا العربي الأصيل.
* الدكتور ثروت اللهيبي - باحث وكاتب عراقي كبير
almostfa.7070@ yahoo.com