أخر مشاهد الأزمة اليمنية هو الإعلان يوم الخميس الماضي 29 يوليو عن تشكيل لجنة للحوار الوطني تضم 200 عضو نصفهم من حزب المؤتمر الشعبي الحاكم وحلفائه،
والنصف الآخر من أحزاب اللقاء المشترك المعارض وشركائه. ولا أحد يستطيع التكهن بمستقبل هذه اللجنة، أو يخمن قدرتها الفعلية على الأخذ بيد البلاد للخروج من مسلسل الأزمات وتضعها على سكة الاستقرار والإصلاح.
أكثر ما يثير الدهشة لزائر اليمن هذه الأيام، وخصوصاً إذا أتيحت له فرصة الاطلاع على الوجه الآخر لهذا المجتمع العريق، هو أن لليمن وجهاً آخر مضيئاً بخلاف الوجه الذي يراه العالمُ منذ مدة ليست قصيرة من خلال أزمات اليمن السياسية المتراكبة والمتزامنة: أزمة الحراك الجنوبي. وأزمة الصدام المسلح بين الدولة والحوثيين في محافظة صعدة والمناطق المتاخمة لها في الشمال. والأزمة الاقتصادية المتفاقمة واستمرار تراجع قيمة الريال اليمني وفقدانه حوالي 20% من قيمته منذ مطلع العام الحالي أمام الدولار الأمريكي (بلغ سعر الدولار 243 ريالاً يمنياً عصر الجمعة الماضي في سوق الصرافة بعد أن كان يساوي 208 ريالات في يناير الماضي).
وسائل الإعلام العالمية والعربية تغفل عن متابعة ملامح الوجه المضيء لليمن الذي يمتلئ بنماذج مجتمعية مشرفة تكافح من أجل الحياة الكريمة على مدار الساعة، والأهم من ذلك أنها تسعى لتأمين السلم الأهلي، وتوثيق عرى التضامن المجتمعي بجهود ذاتية بعيداً عن حلبة الصراع السياسي/الاحترابي. وللأسف فإن وسائل الإعلام اليمني لا تقل غفلة عن هذا الوجه من الإعلام العالمي والعربي لوجه اليمن الآخر.
الإعلام يركز فقط على إبراز ملامح الوجه المأساوي الصراعي الاحترابي، ولا تقصر في الحديث أيضاً عن "الفساد" الذي تزكم رائحته أنوف الجميع، ويشكو منه الجميع أيضاً (حكومة ومعارضة ومنظمات دولية) دون أن تظهر في الأفق شطآن النجاة من أجل الخروج من طاحونة هذا الفساد. وكما هو الحال في أغلب البلدان العربية، لا تزال أكبر قضايا الفساد مقيدة ضد مجهول، رغم كثرة الأحاديث والمؤتمرات عنه، وآخرها المؤتمر الثاني الذي عقدته الشبكة العربية لتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد يومي (26 و27 يوليو 2010) بالتعاون مع الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد في اليمن، وبرنامج إدارة الحكم في الدول العربية التابع للأمم المتحدة.
بعيداً عن تلك الملامح القاتمة في وجه اليمن، رأيتُ ملامح أخرى ترسم وجهاً مشرقاً مترعاً بالأمل، متدفقاً بالحيوية، عازماً على تجاوز محنته؛ ومتفاعلاً أيضاً مع قضية فلسطين والحصار المفروض على غزة. الأدلة على ذلك شاهدناها في القرى الصغيرة، كما في المدن والمراكز الحضرية الكبيرة. وهذه ثلاثة منها تشهد على ما أقول:
المشهد الأول: كان يوم الجمعة الموافق 18 شعبان 1431ه/30 يوليو 2010. ذهبت والدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة لزيارة قرية "سنبان" بمديرية "عنس" بمحافظة "ذمار" (وهي محافظة أثرية سياحية تقع على مسافة 100 كم جنوب العاصمة صنعاء). وذلك بدعوة كريمة من الدكتور/ صالح السنباني، الأستاذ بجامعة صنعاء، وعضو مجلس النواب عن التجمع اليمني للإصلاح، والصديق الدكتور محمد الظاهري أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء، والدكتور عبد الله العزعزي أمين الدائرة الثقافية للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، وهو أيضاً رئيس نقابة هيئة تدريس جامعتي صنعاء وعمران.
كانت المناسبة هي تخريج الدفعة الثانية من حفظة القرآن الكريم (بقرية سنبان) وعددهم 14: منهم 5 بنين، و9 بنات، مع الاحتفال أيضاً بعرس جماعي لـ48 عروسا وعروسة من أبناء "سنبان" التي يبلغ سكانها حوالي ثمانية آلاف نسمة تقريباً، وهو الحفل التاسع الذي تنظمه جمعية أهلية أنشأها د. صالح السنباني وبعض رجال القرية باسم "دار سنبان لتحفيظ القرآن الكريم وعلومه". بعض العرائس احتفلت بعرسها وحفظها للقرآن في الليلة نفسه.
إلى هنا والأمر عادي، ولكن الجديد هو كما أخبرنا الدكتور صالح أن إجمالي تكلفة العرس الواحد لا يتجاوز 1000 دولار أمريكي (حوالي 240.000 ريالاً يمنياً). وأخبرنا أن ثمة اتفاقاً عاماً بين جميع العلائلات على عدم تجاوز هذا المبلغ، لتيسير زواج الشباب، ولوقف سباق الإسراف والبذخ بين القادرين؛ وتغليب مشاعر الأخوة والتكافل الإسلامي على مشاعر الغيرة والحسد، أو العجز والحقد بين الناس. الجديد أيضاً هو مشاركة عدد كبير في الحفل من أساتذة الجامعات، على رأسهم رئيس جامعة الإيمان الشيخ عبد المجيد الزنداني، وأعضاء من مجلس النواب (ثلاثة أعضاء)، وبعض المسؤولين الحكوميين بالمحافظة، ووزير الأوقاف (الذي اعتذر وأرسل تبرعاً مالياً قيماً لدعم مشروعات الدار). والجديد كذلك هو التكافل بين "سنبان" والقرى المجاورة لها، وحرص كثير من أبنائها على الحضور والمشاركة في هذه المناسبة.
بعد انتهاء حفل "سنبان" قال لي د. سيف عبد الفتاح: السياسة بالمعنى الغربي الصراعي تورث الحروب والدماء والثارات، وبالمعنى الشرعي الإصلاحي تورث العمران والنماء؛ هي تعمر القلوب بالقرآن، والمجتمع ببناء أسر جديدة تكون مهيأة للعمل والإنتاج. قلت له صدقت وأحسنت.
المشهد الثاني في الوجه المشرق لليمن هو حضور "الخدمة التركية" في ثلاث مدن يمنية كبرى هي صنعاء، وتعز، وعدن. و"الخدمة" المقصودة هي عمل طوعي يهتم بالتعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية. هذا النوع من الخدمة أسسه الشيخ محمد فتح الله كولن، الداعية التركي الشهير (كولن تعني البسام بالعربية). وينتشر تلامذته ومحبوه بخدمتهم هذه في أكثر من 150 دولة حول العالم، ولهم أكثر من 1000 مدرسة، وعدة قنوات فضائية هادفة، وصحيفة يومية باسم "الزمان"، وأكثر من جامعة، وأكثر من مستشفى على مستوى رفيع.
وصلت "الخدمة" التركية لليمن سنة 1998، وبدأت في صنعاء بتأسيس مدرسة تشمل: حضانة، وأكاديمية الأطفال، ومدرسة أساسية، ومدرسة ثانوية. وبلغ مجموع طلابها هذا العام حوالي 600 طالب وطالبة موزعين على المستويات المذكورة. وثمة مشروع كبير يجري العمل فيه لبناء مقر جديد للمدرسة بمساحة إجمالية 25000 متر مربع، بقدرة استيعابية تتجاوز 1000 طالب وطالبة. ومن صنعاء انتقلت الخدمة إلى مدينة تعز، وافتتحت مدرسة عام 2003م تضم اليوم 250 طالباً وطالبة من الحضانة وحتى الصف الثاني عشر. ومن تعز انتقلت إلى مدينة عدن، وافتتحت فيها مدرسة عام 2006م تضم حالياً 300 طالب وطالبة من الحضانة وحتى الصف العاشر. والخطوة التالية ستكون افتتاح مدرسة العام المقبل في مدينة المكلا، بمحافظة حضرموت. حسبما أفادنا الأستاذ/ محمد يلماظ، أحد تلامذة الشيخ فتح الله، الذي استقبلنا في المدرسة التركية الدولية بصنعاء بابتسامة عذبة لم تفارق وجهه طول الوقت، رغم أنها المرة الأولى التي نقابله فيها، وكذلك الأستاذ كامل عون (يمني) الذي يعمل في الخدمة التركية باليمن، ويجيد اللغة التركية بطلاقة، وأفادنا بكثير من المعلومات عن تطورها في اليمن منذ دخولها سنة 1998.
الإحصاءات التي اطلعنا عليها في المدارس التركية باليمن تقول إن 90% من طلابها يمنيون، وأن 10% فقط هم من أبناء الجاليات الأجنبية من 16 دولة. ومجموع العاملين في المدارس 40 تركيا، و130 يمنيا. وإلى جانب المستوى التعليمي الراقي الذي تقدمه على يد مدرسين يمنيين، ومن خلال المقررات اليمنية الرسمية، تقوم "الخدمة" بالتعاون مع رجال الأعمال الأتراك وبمشاركة طلابها بتنفيذ مشروعات خيرية موسمية، مثل: توزيع المواد الغذائية في رمضان لعدد 1200 أسرة، وتوزيع لحوم الأضاحي لعدد 10000 أسرة تقريبا. إضافة لمخيم طبي مجاني تم تنفيذه 2009 وشارك فيه 30 طبيبا تركيا قدموا من خلاله خدمة المعاينة المجانية وصرف الدواء وإجراء بعض العمليات الجراحية، وتنقل المخيم في عديد من محافظات اليمن.
المشهد الثالث يحتاج لمقالة مستقلة، وهو مشهد الإعداد لتسيير قافلة من السفن لكسر الحصار الصهيوني على غزة. وحتى كتابة هذه السطور لا تزال الاستعدادات قائمة على قدم وساق لتنظيم عملية جمع التبرعات، وسيكون غداً الإثنين (2/8) يوماً مفتوحاً على القنوات الفضائية اليمنية لهذا الغرض. ويأمل منظمو الحملة أن يجمعوا خمسة ملايين دولار أمريكي، من المؤكد أنها ستقتطع من قوت كثير من المتبرعين، ولكنهم يشعرون أنهم يقومون بواجب شرعي وإنساني تفرضه الأخوة الإسلامية، من أجل إغاثة الملهوفين من أبناء الشعب العربي الفلسطيني. خطباء الجمعة في مساجد اليمن أمس (31/7) شددوا على أن القافلة اليمنية لفك الحصار تعد نوعاً من أنواع التكافل بين أبناء الأمة الواحدة التي يجب أن تكون كالبنيان يشد بعضه بعضا.
هذا هو الوجه المشرق لليمن الذي ترسم ملامحه قيم الإسلام التي تحض على التضامن محلياً بين أبناء القرى، وعالمياً بين أبناء الأمة جميعاً من عرب وعجم. فهل يعي السياسيون المحتربون هذا الدرس؟ وهل آن لهم أن يوفروا ويستثمروا جهدهم لإظهار هذا الوجه المضيء لليمن؟.