[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

تأملات في الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للأزمة في الجنوب اليمني (الأخيرة)

قررت الحكومة اليمنية التي كان يرأسها عبد القادر باجمال في صيف 2005م اتخاذ خطوة كبيرة في مجال الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية تعوض الفترات التي لم يتم خلالها تنفيذ أي خطوة جديدة بسبب المماحكات السياسية بين الحزب الحاكم والمعارضة،

إذ قررت الحكومة تنفيذ مجموعة من الإصلاحات كحزمة واحدة وذلك بتخفيض الدعم المخصص للمشتقات النفطية بنسبة كبيرة فيما يخص البنزين وبنسبة محدودة فيما يخص الديزل نتيجة ارتباط هذه السلعة الأخيرة بمئات الآلاف من المزارعين، وتنفيذ استراتيجية الأجور التي تتضمن أسسا جديدة للسلم الوظيفي مع زيادة كبيرة في الرواتب بالنسبة لموظفي الدولة ومن سيتم إحالتهم للتقاعد بموجبها، وإلى جانب ذلك تخفيض الجمارك على السلع الواردة من الخارج ليتوافق من ناحية مع القوانين الخليجية ويخفف من ظاهرة التهريب وينعش السوق التجارية من ناحية أخرى.

ومع بدء التنفيذ خرج الكثير من المواطنين إلى الشارع على مدى يومين في عدد من المحافظات محتجين على الإجراءات بسبب ما أدت إليه من ارتفاع في الأسعار لكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى الهدوء بعد تدخل الرئيس علي عبد الله صالح بإعادة جزء من الدعم الذي كانت الحكومة قد خفضته، وبعد عودة الحياة إلى طبيعتها بدأت أزمة المتقاعدين العسكريين في التصاعد شيئا فشيئا وبالذات المنتمين للمحافظات الجنوبية.

تكمن الأزمة في أن كثيرا من هؤلاء كانوا ضمن أفراد الجيش الذين قاتلوا مع قيادة الحزب الاشتراكي في صيف 1994م لدعم مشروع الانفصال، فما أن انتهت الحرب لم يتم المساس بهم بسبب قرار العفو العام الذي أعلنه الرئيس صالح أثناء الحرب... وكان من الطبيعي أن يتم إحالة القادة منهم إلى التقاعد بينما أتيحت الفرصة لمن يرغب ممن هم دونهم العودة إلى صفوف الجيش أو التقاعد فاختار عدد غير قليل منهم التقاعد بينما عاد الكثير منهم إلى صفوف الجيش والأمن حيث يشغل بعضهم مواقع قيادية حاليا. ومع تنفيذ إصلاحات 2005م ارتفعت الأسعار بشكل كبير في حين كان هؤلاء يعيشون على رواتب التقاعد المقررة منذ عشرة أعوام ومن ثم وجدوا أنفسهم غير قادرين بتلك الرواتب على تلبية أبسط متطلبات الحياة اليومية خاصة أن قانون استراتيجية الأجور الجديد لم يضمن لكل من تقاعد قبل تنفيذه أي زيادة بينما ضمن لكل من سيتقاعد بموجبه راتبا تقاعديا جيدا. وبالتأكيد فإن هذا الضرر شمل آلاف المتقاعدين من أبناء المحافظات الشمالية الذين تضامنوا مع مطالب المتقاعدين الجنوبيين للمطالبة بحقوقهم وخاصة في السلكين العسكري والأمني.

أخذت أصوات المتقاعدين الجنوبيين من العسكريين تتصاعد للمطالبة بحقوقهم دون أي استجابة لأن الحكومة كانت ترفض التراجع عن تطبيق القانون الجديد للأجور، ولأن المئات منهم كانوا مسيسين بالضرورة بحكم انتمائهم للحزب الاشتراكي فقد بدأوا في تكوين جمعيات للمتقاعدين لتنظيم حركتهم ومطالبهم بعد أن لمسوا عدم استجابة الحكومة لها. وتحولت هذه المسألة إلى قضية انتخابية عشية الانتخابات الرئاسية في أيلول (سبتمبر) 2006م حيث التزم الرئيس صالح في حملته الانتخابية بمعالجتها، وبعد فوزه قام بتشكيل عدة لجان للإحاطة بحقيقة المشكلة. ومع البطء الحكومي في اتخاذ المعالجات اللازمة أخذت مظاهر الأزمة المعيشية والاجتماعية في المحافظات الجنوبية تتكشف يوما بعد فتصاعدت مشكلة الأراضي الخاصة بالجمعيات السكنية وتصاعدت مشكلة ضحايا التخصيص وتصاعدت مشكلة الباحثين عن سكن إلى جانب قضايا المتقاعدين وهي جميعها باختصار مشكلات أبعد ما تكون عن السياسي في الأساس، إلا أن الجميع فوجئ ببدء تسييسها جميعا كلما تباطأت المعالجات للقضايا... وبدأ البعض في رفع نغمة المطالبة بالانفصال كنوع من الضغط السياسي فيما دخل آخرون على الخط للاستفادة من حركة الاحتجاجات هذه للمطالبة بانفصال حقيقي وليس على سبيل الضغط السياسي!

ذهبت عدة لجان رئاسية لتقصي الحقائق وعادت معظمها بتقارير متقاربة لكن أهمها كان تقرير اللجنة التي تشكلت برئاسة وزير التعليم العالي د. صالح باصرة وعضوية عدد من الوزراء واشتهر (بتقرير هلال باصرة) نسبة لوزير التعليم العالي ووزير الإدارة المحلية السابق عبد القادر هلال وهو التقرير الذي اكتسب مصداقية من ناحية وأكد على أن المشكلة اجتماعية اقتصادية وليست سياسية من ناحية أخرى باعتبارها مرتبطة بمخلفات النظام الاشتراكي التي لم تضع حكومات ما بعد حرب 94 معالجات حقيقية لها كما فعل الروس وكما فعل الأوروبيون الغربيون مع دول أوروبا الشرقية التي انضمت للاتحاد الأوروبي وكما فعلت حكومة المستشار الألماني الأسبق هيلموت كول عقب الوحدة الألمانية، ومع ذلك مازالت هناك عديد من المشكلات الموروثة عن الشيوعية في تلك المجتمعات قائمة حتى الآن.

كان أهم ما في تقرير (هلال باصرة) أنه شخص الأزمة في قضية المتقاعدين، وفي قضية نهب الأراضي التي بدأت منذ عهد الحزب الاشتراكي نفسه، وفي قضية المساكن التي لم يتم إنجاز شيء منها منذ الوحدة، وفي قضية التخصيص التي نتج عنها آلاف من العمال الذين وجدوا أنفسهم يعيشون برواتب زهيدة دون توفير فرص عمل لهم، وإلى جانب ذلك قضايا أخرى مرتبطة كتراجع خدمات الكهرباء والمياه وضعف الاستثمارات في عدن تحديدا وعدم تحقيق الحكومات المتعاقبة نجاحا يذكر في تحويلها إلى منطقة حرة وكذلك ضعف الأداء الإعلامي الحكومي وعدم قدرته على مخاطبة أبناء تلك المحافظات بالأسلوب المناسب والقادر على امتصاص تلك المشكلات والتخفيف من وطأتها... ورغم عدم الكشف عن نص التقرير الشهير إلا أن مضامينه تداولها الكثيرون، وفيما بدأت الحكومة في تنفيذ عدد من المعالجات فإن بعضها الآخر لم يبدأ بعد مما يؤدي إلى المزيد من التعقيد.

يمكن القول بصورة مؤكدة أن أزمة المتقاعدين العسكريين والأمنيين قد جرى معالجتها بنسبة تفوق 90 في المائة واضطرت الحكومة لمخالفة قانون الأجور وهي لم تقم فقط بتسوية رواتب من فضلوا البقاء في التقاعد بل إلى ذلك فقد سمحت للراغبين في العودة لأعمالهم حيث وصلت التكلفة المالية للمعالجات بحسب تقرير رسمي إلى أكثر من 250 مليون دولار سنويا. وبدأت الحكومة في معالجات جادة لقضايا المساكن الخاصة بصغار الموظفين ومحدودي الدخل من خلال مشروع الرئيس صالح للمساكن والذي سينفذ آلاف المساكن في عدد من المحافظات لمحدودي الدخل، كما تم تسليم أراضي الجمعيات السكنية لموظفي الدولة والمجمدة منذ عام 1992م لهذه الجمعيات تمهيدا للبحث عن تمويل لإقامة مساكن لأعضائها من موظفي الدولة، إلا أن هذا لا يعني أن جميع مشكلات الأراضي قد تم حلها فما زال عديد منها قائما. والظاهر أن المشكلة الأكثر تعقيدا هي المتعلقة بالبطالة بما فيها تلك التي نجمت عن عمليات التخصيص غير المدروسة بعناية، وهي جعلت الحكومة تتخذ أخيرا إجراءات لإيقاف عمليات التخصيص من ناحية ومراجعة ما تم من ناحية أخرى، وإلى جانب ذلك فإن الحكومة بصدد وضع خطة متكاملة بالتعاون مع استشاريين دوليين لمعالجة أوضاع عدن كعاصمة اقتصادية لليمن بغرض الوصول إلى معالجات جذرية للأزمة برمتها.

أهم ما يمكن قوله في ختام هذه المقالات الخمسة أن جوهر الأزمة القائمة في المحافظات الجنوبية اليمنية هي اقتصادية معيشية اجتماعية وليست سياسية بالمطلق، وما يجري من تصعيد بين الحين والآخر هو محاولات لتسييس تلك القضايا المجتمعية إما من قيادات معارضة تهدف للضغط من أجل الإسراع في المعالجات أو من قيادات معارضة أخرى تسعى جادة لإعادة تجزئة اليمن أيا كانت النتائج. وفي الحقيقة فإن اليمنيين عموما يدركون مخاطر التجزئة ولذلك لا توجد أصداء أو تجاوب مع هذه الدعوات، وهو ما يجعلهم غير قلقين على مستقبل اليمن الذي استعاد روحه ومكانته مع استعادة وحدته ومن دونها يفتقد قيمته ودوره ويعود بالتأكيد على هامش التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى