الحركة الجارية عربيا وإقليميا في الايام القليلة الماضية تقول شيئا واحدا لامهرب منه, إن المنطقة تعيش أياما صعبة, تنتظر من ورائها حدثا هائلا, لايعرف أحد بعد طبيعة هذا الحدث. ولاكيف سيفرض نفسه علي الجميع, ولا النتائج المحتملة منه. وهنا يبدو الغموض مبررا للقلق, بل والاستعداد لما هو أسوأ بكثير مما قد يتصوره أحد منا.
الأمر هنا ليس تشاؤما أو تفاؤلا, بل هو مجرد حدس لوقائع تجري أمام أعيننا تفيض بالدماء واللايقين والاتهامات والتخوين والوعيد للطرف الآخر. إحدي هذه المفردات كفيلة بأن تقلب بلدا رأسا علي عقب, وتنغص حياة الأمة بأسرها, فما بالك إن اجتمعت معا في لحظة زمنية واحدة في أكثر من بلد عربي؟. وربما هذا هو الدافع الجامع بين التحركات الإقليمية التي تشهدها القاهرة والرياض وبيروت وغيرها.
نظرة سريعة إلي خريطة المشرق العربي ونزولا حتي جنوب الجزيرة ثم إلي الغرب قليلا حيث الصومال والسودان وصعودا باتجاه الغرب حتي موريتانيا والمغرب ومرورا بالجزائر, تتضح معالم فشل عربي عام, يزيد قليلا في بلد أو ينخفض قليلا في آخر, بيد أن النتيجة واحدة تتمثل في توتر داخلي وخارجي في آن واحد, يصاحبه تراكم في المشكلات وغياب للحلول, أو بالأحري غياب إرادة الحل, الذي هو موجود بالطبع نظريا, ولكنه يحتاج إلي من يجعله واقعا ملموسا, وهنا تكمن المعضلة.
لاشك هنا في أن الوضع في لبنان, علي الرغم من الهدوء أو الهدنة الغالبة حتي اللحظة مقدم علي ساعات وأيام صعبة, يتخوف البعض من نتائجها ومما قد تئول إليه مفردات الحرب الأهلية والفتنة والتذكير بالطائف الذي كان قبل عقدين تقريبا, وشائعات استعداد حزب الله للانقلاب علي الدولة والسيطرة علي مؤسساتها, باتت مناخا عاما تلفه وتصاحبه مشكلات الخلاف حول قرار المحكمة الدولية الظني المرتقب والمحتمل أن يوجه أصابع الاتهام لعناصر من حزب الله, ومسألة شهود الزور, وقرارات الاستدعاء القانونية الصادرة من محكمة سوريا بحق مسئولين لبنانيين علي خلفية ادعاء رفعه جميل السيد مدير الأمن العام السابق ضد من يعتبرهم زجوا به في السجن دون دليل.
هذا الوضع الذي سبق ولحق زيارة الرئيس الإيراني احمدي نجاد إلي لبنان ومقابلاته وتصريحاته عن المقاومة كخيار لبناني تدعمه إيران, وزوال إسرائيل قريبا, وتشديده بالوقوف مع لبنان في وجه أي تحد أو تهديد, وإن كان يشكل تطورا جديرا بالنظر والتأمل في نتائجه, فإنه لايغير من حقيقة ان إيران ليست علي مسافة واحدة من القوي اللبنانية المتصارعة فيما بينها.
ولايغير من حقيقة أن هذه الزيارة قصدت بالأساس إظهار الدعم والتأييد غير المحدود لحزب الله ولحركة أمل والقوي المتحالفة معهما, وبالتالي فإنه مادامت هذه الأطراف راسخة في لبنان وقادرة علي تحييد التهديد الاسرائيلي للبنان ولو نسبيا, فإن إيران أيضا ستظل موجودة في الساحة اللبنانية ككل, وتلك الرسالة يمكن أن تقرأ من زوايا مختلفة, أبرزها في ظني أنها موجهة أيضا إلي الحليف الاستراتيجي لإيران, أي سوريا, التي مالت في العامين الماضيين كثيرا ناحية تركيا, وقبل عدة أشهر عدلت مسار العلاقة مع السعودية, مما أثار تكهنات كثيرة بأن دمشق تستعد لإبراء ذمتها من العلاقة مع إيران, ولكن بعد أن توفر لنفسها غطاء أقليميا عربيا مناسبا.
إيران وتحركاتها في المشرق العربي, سواء في العراق أو لبنان, لاتقل من حيث الدلالة عن تحركات تركيا في الاطارين العربي والإقليمي معا. بيد أن التميز التركي يكمن في أسلوب بناء المصالح الواسعة, كما هو الحال مع سوريا والاردن ولبنان وبلدان عربية أخري. وبما يسمح بالقول إن هناك ملامح نظام إقليمي يتشكل بالفعل يجمع بين أقطاب عرب وأقطاب إقليميين, مما يستدعي البحث بقوة في تعريب هذا النظام من خلال بناء مؤسسي تلعب فيه الجامعة العربية الدور الأكبر كرمز للهوية العربية الجماعية, وكمؤسسة تجسد النظام العربي بتنسيق كامل مع القوي العربية الفاعلة والقائدة. وإلا كان البديل هو سحب الأطراف إلي نوع من الحماية والوصاية والشراكة مع قوة إقليمية أو أكثر, ومن ثم يفرغ قلب العالم العربي ويصبح قلبا وحيدا بلا منافذ ولا مخارج, إلا وكانت تحت وصاية طرف إقليمي.
علي هذا النحو, يبدو مصير النظام العربي يدعو إلي الحزن والقلق, لاسيما أن قمة سرت التي عقدت قبل عشرة أيام تقريبا, وكان هدفها الدفع بمنظومة العمل العربي المشترك قدما إلي الامام, إذا بها تصبح محطة أخري من محطات الانقسام العربي الذي يعمق الجراح ويسد منافذ التغيير المتدرج الهادف نحو إحياء الكيان العربي وتغذيته بدماء جديدة تساعد علي مده بالحياة ولو لعقد أو عقدين مقبلين علي الأقل.
انهيار الأطراف العربية, أو شد بعضها خارج سياق النظام العربي ليس بالضرورة نتيجة فراغ قوي إقليمية, أو نتيجة مساعي طرف أو أكثر لجذب طرف عربي بعينه, بل هي نتيجة منطقية لفشل الدولة العربية ومؤسساتها في الحفاظ علي منظومة الدولة نفسها, مما يدفعها إلي التآكل الذاتي, ومن ثم تفني رويدا رويدا. هذا ماحصل مع الصومال منذ مطلع التسعينيات وما زال يحصل. وتأتي اليمن لتوفر لنا النموذج الأبرز الثاني لفشل الدولة واستعدادها للانهيار والانقسام.
اخبار اليمن ومنذ مدة تزيد الآن علي عقد كامل محصورة في مواجهات بين مؤسسات الحكم وحركة التمرد الحوثي, وارتفاع وتيرة الاحتجاج السياسي والاجتماعي في محافظات الجنوب, وهو مايعرف بالحراك الجنوبي الذي يطالب بعض قياداته البارزين بالانفصال وعودة الساعة إلي ماقبل مايو1990 حين أعلنت دولة الوحدة اليمنية, ثم المواجهات مع تنظيم القاعدة التي زادت وتيرتها بشكل مثير في الأشهر القليلة الماضية, والتي شهدت بدورها نشاطا لخلايا قاعدية تنتشر في الأرض اليمنية ضد رموز المؤسسة الأمنية والمحافظين في أكثر من محافظة من محافظات الجنوب, واستهداف مصالح غربية وأمريكية كالسفارات وسائحين غربيين, وأخيرا قصف جوي لأكثر من منطقة توصف بأنها أحد معاقل تنظيم القاعدة. فضلا عن زيادة الاستياء لدي أحزاب اللقاء المشترك نتيجة تلاعب السلطة بالحوار الوطني علي غير هدي, ومما يرسل إشارات خاطئة وخطيرة لليمنيين شمالا وجنوبا, ويؤكد بدرجة ما اكتفاء النظام بالمؤيدين والمخلصين له فقط لاغير, وللأسف منهم من سوف يهجر هذا التأييد عند أول اختبار جاد.
حالة اليمن, ومن قبل الصومال, لابد أن تستدعي قلقا عربيا عاما. وسوف يكون مؤلما لليمن إذا ما قررت اتحادات كرة القدم في بلدان الخليج العربية أن تسدل الستار قبل أن يرفع علي مسابقة خليجي في كرة القدم, والمزمع أن ينظمها اليمن في نهاية نوفمبر المقبل. وإن حدث القرار وتم استبدال بلد آخر بالعاصمة صنعاء, فسيكون ذلك دليلا ذا طابع إقليمي عربي علي عمق الأزمة في الداخل اليمني, وعدم استبشار دول الخليج العربية خيرا من قدرة الدولة اليمنية علي تأمين المسابقة بلا تعكير لصفوها. وذلك رغم أن اليمن قرر استنفار30 ألف رجل أمن من أجل تأمين المنشآت الرياضية والوفود والفاعليات المختلفة للمسابقة.
إذا نظرنا إلي القلق العربي تجاه اليمن وتطوراته الدرامية التي ترقي لدي البعض بأنها مقدمات حرب أهلية ستكون أقصي من تلك الحرب المدمرة التي شهدتها البلاد صيف1994, لن نجد الكثير سوي بعض كلمات تصريحات لاتقدم ولاتؤخر. لن نجد مثلا مؤتمرا عربيا تحت شعار أشقاء اليمن يسعون لمناصرته ضد التهديدات المختلفة, ولانجد وفودا رسمية عربية تذهب لليمن للاطمئنان وتقديم المشورة والنصح المنزه عن الهوي والغرض, ولانجد مشاورات عربية في الجامعة العربية بغية إدراك حقيقة مايجري في بلاد اليمن الذي كان سعيدا, حيث تنتشر المواجهات في أكثر من11 محافظة في الجنوب والوسط من البلاد.
هكذا يمر خط فاقع من القلق, يمتد من الشمال ويمر بالوسط وينزل إلي الجنوب, ويمتد إلي شمال الغرب قليلا مارا بالعراق الذي مازال قياداته يبحثون تشكيل حكومة رغم مرور7 اشهر علي إعلان النتائج النهائية للانتخابات. صحيح أن نوري المالكي وباقي زعماء العراق يتنقلون من بلد إلي آخر بغية الحصول علي الدعم ولو السياسي أو المعنوي وحسب, فإن مجمل الصورة بما فيها من تدهور أمني وبقاء قوات أجنبية علي الأراضي العراقية يثبت أن تعافي العراق وعودته كعضو فاعل في المنظومة العربية مازال بحاجة إلي عقود طويلة, هذا إن لم يتحول إلي نقطة ارتكاز لشد أطراف عربية أخري إلي الأحضان الإيرانية, وعندها تكون الطامة الكبري.