آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

مخاضات الثورة التونسية والمصرية..

ليس هناك مسمى أقل من (ثورة) يمكن إطلاقه على ما حدث مؤخراً في كل من تونس ومصر، وإن كان هناك مسمى أكثر من ثورة فإنه ينطبق بالتأكيد على الحدثين التاريخيين العظيمين غير المسبوقين في التاريخ العربي المعاصر... لقد أثبتت الثورتان – على ما بينهما من فوارق واختلاف في النتائج – أن الإرادة الشعبية تمتلك من القوة ما يفوق أعتى الأعاصير وأشد الزلازل وأعنف البراكين، وأنه ليس مثل الشباب من يمكن أن يعبر عن هذه الإرادة الجبارة... وأثبتت الثورتان أنه لا شيء يمكنه استفزاز وإيقاظ هذه الطاقة الكامنة مثل أن تتعرض الكرامة الإنسانية للإهانة والاستصغار والاستنقاص والتجريح، فالشعب التونسي كان الأفضل في مستواه المعيشي مقارنة بغيره من الشعوب العربية – باستثناء بعض الدول النفطية طبعاً – رغم بعض المعاناة التي واجهها خلال العامين الأخيرين نتيجة تداعيات الأزمة المالية العالمية، لكنه تجاوب مع تضحية شاب أحس أن كرامته امتهنت فتداعى الشباب من هنا وهناك ليقوضوا، بعد أقل من شهر، واحداً من أعتى الأنظمة الدكتاتورية والأمنية ليس في العالم العربي فقط بل في العالم كله...

لم يستطع زين العابدين بن علي رجل الأمن والاستخبارات العتيد ابن الخمسة والسبعين عاما أن يصمد أمام بضعة آلاف من المتظاهرين كسروا شوكته وأطاحوا هيبته التي بناها على القمع والكبر والانغلاق وليس على التسامح والتواضع والانفتاح... فقد بدا بن علي مرتجفاً مهزوزاً في خطابه الأخير عشية فراره كما لم يحدث له من قبل، ويبدو أن هذا الحال الذي ظهر عليه هو انعكاس تلقائي لحجم القمع والاستبداد الذي مارسهما طوال فترة حكمه التي تجاوزت ثلاثة وعشرين عاماً!

كانت تونس – في تصور معظمنا – هي آخر بلد يمكن أن يحدث فيه ما حدث من ثورة غضب وثأر للكرامة نتيجة القناعة أنها دولة بوليسية صارمة جداً من ناحية ولأنها في وضع اقتصادي جيد من ناحية أخرى، لكن سنن الله غلابة بالفعل... فما أن أحيا (الشهيد البوعزيزي) روح الكرامة لدى أبناء جيله حزناً على ما أصاب كرامته من مهانة على يد شرطية تعبر بحرفية عن روح النظام البوليسي حتى استيقظت مشاعر دفينة أفرزت غضبا هائلا لم يستطع بن علي الصمود أمامه فرحل فاراً غير مأسوف عليه... ورغم المشهد التونسي المذهل فإن كثيرين لم يتوقعوا أن يتكرر المشهد – وإن بصورة وآليات مختلفة – في أكبر وأهم بلد عربي، لكن الثأر للكرامة المهدورة لا يفرق كما يبدو بين بلد العشرة مليون نسمة والثمانين مليون نسمة، فمادامت روح القمع والكبر جمعت النظامين، حتى وإن كانت بنسب متفاوتة، فقد كان لابد من تكرار المشهد!

قال نائب الرئيس المصري السابق عمر سليمان في أحد لقاءاته خلال فترة الثورة أنهم كانوا يرصدون تحركات الشباب منذ عدة شهور لكن توقعاتهم قدرت الحد الأقصى الممكن خروجه للشارع في حدود مائة ألف وهو عدد محدود بالنسبة لإجمالي عدد المصريين... لم يستطع النظام قراءة سيكولوجية النخبة المصرية التي هزتها طريقة مقتل الشاب (خالد سعيد) وزلزلتها روح القمع والاستكبار والاستحواذ التي أديرت بها الانتخابات التشريعية الأخيرة والتي لم تتحمل إمكانية وجود تمثيل نيابي للإخوان المسلمين بل لم تتحمل حتى وجود الأحزاب الصغيرة كالتجمع والوفد والناصريين الأمر الذي دفع معظم هذه التيارات لمقاطعة الدورة الثانية ومن ثم أصبحت البلاد مهيأة للانفجار الشعبي ليس من قبل الطبقات المسحوقة بل من قبل الطبقة المتوسطة التي تمثل نخبة الشباب المصري المتعلم الذي غابت عن ناظريه كل آفاق المستقبل في ظل حالة الانسداد السياسي التي فرضتها لجنة السياسات مستغلة الوضع الصحي والنفسي الصعب والسن المتقدم للرئيس حسني مبارك... كل تلك الممارسات أشعلت الوقود في النفوس، فما أن انتصرت ثورة الشباب في تونس حتى مضى شباب الطبقة المتوسطة المصرية الذين يتمتعون بمستوى معيشي معقول والمشهورين بمسمى (شباب الفيسبوك) في الاستعداد لتكرار المشهد إلا أنهم كانوا أفضل تنظيماً وأكثر تحديداً لأهدافهم وآليات عملهم، ليقدموا على مدى ثمانية عشر يوماً ملحمة تاريخية ملهمة اكتسبت إعجاب العالم كله، وفيما خرج الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي فاراً ذليلاً فإن شباب مصر وجيشها حرصوا على أن يوفروا للرئيس السابق حسني مبارك خروجاً يحفظ حدا معقولا لكرامته وهي مسألة لم يختلفوا عليها وهو ما زاد العالم إعجاباً بهذه الملحمة الإنسانية الحضارية غير المسبوقة... وللحديث بقية..

هذه الاعتداءات...

من المؤسف أن تتكرر الاعتداءات على الصحفيين والمراسلين بطريقة تهيج الرأي العام المحلي والدولي على بلادنا... ولست أدري ما هي الخدمة التي يقدمها المعتدون للبلد؟!... ألم يتعلموا من تجارب سابقة أن هذه الاعتداءات زادت الوسط الصحفي صلابة؟!... وأن ما يمكن أن يحققه التواصل والتفاهم لا يمكن للترهيب والعنف أن يحققه مطلقا... رجاء أيها المخلصون لا تسيئوا للبلد وللرئيس أكثر من هذا ولا تهيجوا الناس أكثر من هذا...

زر الذهاب إلى الأعلى