لم يعد هناك من شك أن الوطن العربي أصبح أمام مرحلة جديدة تماما يسود فيها مزاج شعبي مختلف كليا عما كان عليه الحال، وستشهد هذه المرحلة متغيرات كبيرة باتجاه مستقبل جديد يفترض أن يكون أفضل حالا مما نحن عليه الآن رغم مخاضاته الصعبة.
صحيح أن مؤشرات هذا المستقبل الأفضل لم تظهر حتى الآن في كل من تونس ومصر – كونهما أنجزتا التغيير – لكن هذا أمر طبيعي على الرغم من مظاهر الفوضى والانفلات السائدة فيهما، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء التونسي الجديد (الباجي السبسي) للقول بأن أهم أولوياته القادمة هو استعادة هيبة الدولة، وهو ما دفع رئيس المجلس العسكري المصري المشير محمد طنطاوي – كذلك – للقول أمام مجلس الوزراء المصري الجديد برئاسة عصام شرف أن الأولوية لإعادة ضبط الشارع المصري.
ومن الواضح أن هذه المخاضات لا مفر منها كنتيجة حتمية للطريقة التي سقط بها الرئيسان السابقان لتونس ومصر، وكنتيجة حتمية للآلية الاستبدادية التي كانا يديران بها حكمهما.
وقد حدثني الصديق الأستاذ حسين العواضي سفير اليمن في تونس عن بعض مظاهر الفلتان والفوضى والخوف الحاصلة في تونس في هذه المرحلة ناهيك عن تراجع الإنتاج وتوقف السياحة وبروز ظاهرة البناء العشوائي، وصور أخرى مقاربة سمعتها أثناء حوار شيق أجرته قناة (أون تي في) المصرية المستقلة مع رئيس الوزراء المصري المستقيل أحمد شفيق ومعه نخبة من المفكرين والصحفيين عشية استقالته عندما قال إن نسبة الإنتاج في مصر – في هذه الفترة – تدنت لتصل إلى نسبة (10%) بسبب كثرة الاعتصامات والإضرابات، الأمر الذي يبعث على قلق مخيف على أحوال الاقتصاد المصري.
وجاءت أحداث ليبيا لتزيد الطين بلة، ففيما استبشر المواطنون العرب بقرب نهاية أكثر الحكام استبدادا واستخفافا بعقولهم وعقول أبناء شعبه؛ فإذا بالانتفاضة السلمية الشعبية الليبية تتحول إلى مواجهات مسلحة يخشى الكثير من المراقبين أن تصبح حربا أهلية بامتياز إذا لم يتم الحسم في وقت قياسي رغم أنها أزمة مرشحة لأن تطول كما تقول المؤشرات التي يمكن القياس عليها الآن!
المشهد القائم في المنطقة يتطلب بالضرورة استدعاء الحكمة والبصيرة لدى بقية الدول العربية التي لن تنجو منها أية دولة من عملية التغيير القائمة والقادمة إما جزئيا أو كلياً، وهانحن نرى دولاً عربية كانت مضرب المثل في السكينة والهدوء والاستقرار بدأت تواجه معضلات بل وحصلت فيها مواجهات وقتلى وجرحى، الأمر الذي أذهل جميع العرب بل وأذهل العالم. فما يجب أن يدركه القادة العرب أنهم معنيون بالضرورة بإجراء عمليات جراحية مؤلمة لهم وللأوضاع التي استمرؤوها طوال سنوات أو عقود مضت، ويقوموا بأنفسهم بإعادة النظر جذرياً في الأسباب والمسببات التي أوصلت بلدانهم والمنطقة لهذه الأحوال الصعبة التي غابت معها آمال أجيال جديدة في حاضر مستقر ومستقبل أكثر أماناً لهم ولأولادهم.
ومن المؤكد أنه إذا اتضحت الرؤية لدى القادة العرب وتمكنوا من استقراء متغيرات الحاضر واتجاهات المستقبل فإنهم سيكونون قادرين على تجنيب بلدانهم الوقوع في براثن الفوضى والاضطرابات. ذلك أن ثورتي تونس ومصر أحدثتا زلزالا هائلا لم تقتصر آثاره على المنطقة بل امتدت توابعه إلى الصين، كما أحدثتا تحولا كبيرا غير مسبوق في مزاج المواطن العربي وصلت تأثيراته إلى الطفل العربي الذي أصبح يعرف جيدا معنى الاعتصام والاحتجاج وكيفية المطالبة بحقوقه، وهو أمر أتحدث عنه بكل جدية وليس على سبيل المزاح أو المبالغة كما قد يظن البعض. وعلى ذلك فنحن اليوم أمام مواطن عربي مختلف سيكولوجيا وذهنيا وسياسيا عن ذلك المواطن الذي عرفناه قبل يوم 17 ديسمبر 2010م يوم انطلاقة الثورة التونسية.
يمكن اليوم التأكيد مجددا أن ثورتي تونس ومصر أنهتا كليا أية مشاريع للتمديد أو التوريث في الجمهوريات العربية، وفي الوقت ذاته فقد فتحتا الأبواب مشرعة أمام إمكانية تحول الملكيات العربية القائمة إلى ملكيات دستورية، وهذا ما يعني تضافر أهل الفكر والرأي والسياسة في كامل المنطقة لتأمين عمليات الانتقال الديمقراطي التي تمثل الحل الوحيد للإشكاليات السياسية والتاريخية القائمة.
لقد انفتحت آمال الناس على مصاريعها ولن يتمكن أحد من وقف عجلة التغيير، وما بين النموذج التونسي الصادم بمفاجأته والنموذج المصري الملهم بآلياته والنموذج الليبي المفزع بدمويته، تدور الأفكار والنقاشات والخيارات في كامل المنطقة العربية التي يفترض أنها قادرة على ابتداع نماذج أخرى حضارية للتغيير والانتقال الآمن للسلطة وتأسيس ديمقراطيات حقيقية متجاوزة مرحلة التأهيل الديمقراطي التي حدثت خلال العقدين الماضيين، ومكنت العديد من الأنظمة العربية من الدخول في عداد الديمقراطيات الناشئة. إذ لا يمكن لأحد أن ينكر أن الهامش الديمقراطي المتاح خلال السنوات العشرين الماضية سواء عبر حرية الصحافة أو التعددية السياسية أو التنافس الانتخابي قد أسهم بشكل أو بآخر في تنمية وتطوير الوعي السياسي، وجاءت التطور التقني الهائل وما صاحبه من ثورة معلوماتية رهيبة – رغم محدوديتها في المنطقة العربية مقارنة بما لدى العالم المتقدم – لتخلق جيلا جديدا طامحا للتغيير، وفي كثير من الأحيان لم يعد يهمه كيف يمكن أن يتم هذا التغيير طالما أنه سينهي حالة الانسداد الشامل القائمة... وللحديث بقية.