أرشيف الرأي

أمريكا.. الوجه الآخر وثقافة الخداع

لا أدري إلى متى سيظل هذا العالم يصدق أكاذيب الإمبراطورية وادّعاءاتها السياسية المقيتة! هل حقا ما تزال الشعوب تصدق؟ أم أنها وحدها الحكومات والأنظمة التي تتقاطع مصالحها الإقليمية والدولية وتتشابك، فتسارع تحت رحمة الحاكم المتسيّد إلى الترحيب والتأييد لكل كذبة وتهمة، وتجند الإعلام والمال وهما الكفيلان بتوصيل الرسالة كما ينبغي.

لقد شاهدت الشعوب بلدانا تمحى من الخارطة بحروب مدمّرة بتهمة إرهابها أو امتلاكها لأسلحة دمار شامل، كما حل بالعراق ليقول المحتلون بعد ذلك أن تلك الحرب كانت نتيجة تقارير استخباراتية خاطئة استندت إليها، بعد أن دمّروا البلد وقضوا عليه إنسانا وأرضا! وليتهم بعدها اعتذروا لأرواح أكثر من مليون ونصف المليون إنسانا أزهقت أثناء وبعد هذه الحرب التي ما تزال!

تلك كانت كذبة من سلسلة كذبات طويلة في تاريخ الإمبراطورية الأمريكية، فهل تكون حادثة قتل ابن لادن ثاني كذبة للرئيس الأمريكي الجديد أوباما بعد كذبته عن محاولة النيجيري عبد المطلب تفجير طائرة أميركية كانت متجهة من أمستردام إلى أمريكا؟

أنا لا أشكك بدءاً بمقتل بن لادن، ولا أدعي جزمي بمعرفة الحقيقة، بقدر ما أشكّ وأشكك بالرواية الأمريكية حول طريقة مقتله وتوقيت الإعلان عنها! وهي الرواية التي تسمح بالتالي لشكوك أخرى في مدى صحة الخبر ومصداقيته في هذه الأيام، مع عدم إغفال ما يجري على الواقع من سيناريوهات متعاقبة ومتعددة تقف أمريكا في صلبها وبكل الصفات التي تخولها لنفسها!

خرج أوباما ليلا، وعلى طريقة الوجبات الأمريكية السريعة، كان خطابه عاجلاً وسريعاً، ليعلن لشعبه والعالم عن نصره الكبير بقتل أسامة بن لادن و(بأمر) منه كما قال، وبعدد محدود من رجاله الذين نفذوا العملية بشجاعة (خارقة)، لترحب الكثير من دول العالم بالحادثة، ويشتغل الإعلام الحليف والمستأجر عليها بتغطياتٍٍ مستمرةٍ شدت أنظار الناس وأسماعهم؛ لكأنما انتهى (الإرهاب) الذي صورته أمريكا بصورة الإخطبوط السرطاني الذي يهدد العالم بالفناء والموت، بنهاية (أسطورة) بن لادن. وثمة تتوارد الأسئلة على أذهاننا ونضع بكل شك علامات الاستفهام والتعجب معا.

هل خروج أوباما منتشياً بنصره الكبير كان سذاجة منه؟! إذ كان الخطاب المقتضب يشي بالنصر الحاسم وانتهاء المعركة. سوى أن ما علمناه التاريخ أن الفكر لا يمكن أن يقضى عليه بقتل مؤسسه، كفكر تنظيمي واسع ومترامي الأطراف والاتجاهات هو القاعدة. فإذا كان أوباما ودهاقنة إدارته سذجاً في هذا -وهو أمر مستبعد- فإن الشعوب ليست ساذجةً حتى تنطلي عليها هذه التمثيلية الهادفة، وتمارس ضدها باستخفاف عملية تجريد للعقول ثم معاودة شحنها بطاقة كذب جديدة، وعلى طريقة جوبلز، اكذب اكذب حتى تجد في الناس من يصدقك!

أم أن أوباما أراد بزفّ هذا الخبر تأمين طريقه في رحلته الثانية إلى كرسي البيت الأبيض، وإيهام العالم بانتهاء الخوف الذي مورس ضده بسبب القاعدة، وبث الطمأنينة في النفوس بعد بث الروع والرعب لسنوات، منذ أحداث سبتمبر، مرورا بحكم سلفه، ثم خطابه الدعائي و الرئاسي الذي توعد فيه القاعدة والإرهاب وحتى اللحظة التي تدك فيها آلته العسكرية أجزاءاً كبيرةً من العالم الإسلامي بتهمة الإرهاب. وهنا تتأيد بقوة فكرة من يقول بأن القاعدة باتت صناعةً أمريكيةً تحركها وتقف وراءها أجندةٌ وسياساتٌ بعيدة المدى، تروم الإمبراطورية تنفيذها بما يضمن بقاءها في سدة حكم العالم بسياسة القطب الواحد. وعلى أساس هذا المعطى يرى البعض أن أمريكا دخلت مرحلة جديدة غيرت فيها استراتيجيتها بما يتواءم وحماية مصالحها وبسط نفوذها، وبما يحقق استجابة لدى الشعوب والاستمرار باستخدام ونشر ثقافة الخداع التي يمارسها البيت الأبيض، كما كشف ذلك موظفه السابق، الصحفي سكوت ما كليلان في كتابه "ما الذي حدث".

ثمة من يشكك بصدق الخبر، ولهؤلاء ما يبرر شكوكهم فبالإضافة إلى فقدان الثقة بمصداقية سياسة أمريكا في تعاملها مع الكثير من القضايا، فإن الثقة الآن مفقودة لأسباب تتصل بالعملية المزعومة التي ظهرت كمهزلة مشابهة لمهازل مماثلة سابقاً، ففي أوقات كان يختفي فيها بن لادن كانت التصريحات تتو إلى عن مقتله على يد القوات الأمريكية، ثم الإعلان عن الاشتباه فيما بعد، ما حدا بالباحث والأكاديمي الأمريكي ديفيد راي غريفين أن يؤلف كتابه " أسامة بن لادن حي أم ميت؟" متحدثا فيه عن حقيقة موت بن لادن بسبب مضاعفات الفشل الكلوي المزمن في 20 أغسطس 2001م، وهو ما سعى الغرب إلى إخفائه لتحقيق مآرب سياسية كما يقول.

وبقدر ما بدا أوباما حريصا على الإسراع في إعلان خبر مقتل بن لادن، بدت تصريحات مسؤولي إدارته مرتبكة وتكشف تضاربا وتناقضا واضحين، منذ البداية وحتى آخر ما أطلّوا به حول تفاصيل العملية، كنتيجة طبيعية لكذبة مصنوعة يراد لها أن تصدق وتمرر وبكل الجهود! وبدلاً من أن نعمل عقولنا ونبحث عن سبب التضارب في التصريحات وأبعادها، صرنا نبحث عن أوضحها وآكدها على صدق وقوع العملية كي نطمئن أو نريح أنفسنا كالعادة!

لن أقف عند الحادثة وظهور زيفها وخداعها، لكني سأقف عند بُعد واحد من أبعادها، يمثل جزءاً من تنفيذ استراتيجيةٍ مرسومة على الأمد البعيد، وهو ما يكشف بدوره عن الوجه الآخر لأمريكا، وعن قدر الكذب والتضليل الذي تمارسه على العالم خدمةً لأهدافها في السيطرة عليه وعلى مكامن القوة والنفوذ فيه، وما أمر أحداث سبتمبر عنا ببعيد، إذ كشفت أسرارٌ مهولةٌ عنها أريد لها أن تطوى، وما يزال القادم يحمل الكثير!

كانت الإدارة الأمريكية قد تحدثت قبل أسبوع من إعلانها خبر مقتل بن لادن عن مخاوفها من وصول أسلحة خطيرة وتدميرية إلى أيادي إرهابية، فكان حديثها خارج السياق ومفاجئاً، لكن أحداً لا يدري بما يجري خلف كواليس هوليود السياسة الأمريكية التي تصنع خداعاً سياسياً وفكرياً مدروساً ومشابهاً لما تصنعه هوليود السينمائية، من أفلامٍ مدبلجةٍ تنطوي على خداعٍ بصريٍّ يقوم به ممثلون بارعون.

قالت الإدارة الأمريكية إن بن لادن قد قتل في مكان لا يبعد عن إسلام أباد سوى 80 كيلو متر، حيث كان يقيم في (قصر) قرب أكاديمية عسكرية باكستانية لا تبعد سوى 18 متر فقط، ولم تطلع الإدارة حليفها الباكستاني بالعملية، بل انحصر علمها بأوباما و(المقربين) من معاونيه، وكان هجوماً برياً وليس ضربةً جويةً وإنزال أطنان من القنابل كما حدث مع أحد (أتباعه) وهو الزرقاوي، أما الجثة فألقوها في البحر(بحر العرب) كما قالوا! لتكتفي أمريكا من بن لادن بصورة قديمةٍ لرأسه في يد تمثال الحرية وهو ممسكٌ به، وزّعت في شوارعها على الأمريكيين المحتفين بتحقيق النصر! ومن يدرك حجم السلطة التي يمارسها الإعلام على الشعب الأمريكي وتوجيه وعيه، لا يتعجب من مدى فرحتهم وتصديقهم للخبر!. فأي سيناريو خطير ينتظر باكستان ومستقبلها ومفاعلها النووي على وجه الخصوص؟ بالتأكيد تكاد الصورة تكتمل الآن لينفتح الستار عن مسرح أمريكي جديد، فثمة رؤوس كبيرة للإرهاب تختفي في باكستان! وبالتالي فنووي إسلام آباد في خطر! وكيف لو ثبت تورط المخابرات الباكستانية في تعاونها مع بن لادن! إذ المسافة بين (قصر) بن لادن والأكاديمية العسكرية الباكستانية تسمح بالشك في ذلك وربما التأزم، كما بدا يلوح في الأفق!

هذا السيناريو المفبرك أعاد للأذهان حادثة المسجد الأحمر، الذي دفعت أمريكا القوات الباكستانية لاقتحامه، بحجة ضرب الإرهاب في أوائل يوليو 2007م، وقتل كل من فيه بعد حصارهم لمدة أسبوع، ثم دفنهم ليلاً بعيداً عن أعين الناس، ولم تمر اليومان أو الثلاثة حتى كان البيت الأبيض يصرح بأن باكستان تشكل موئلاً وملاذاً للإرهاب! وبينما كانت أمريكا تعقد اتفاقيات نووية مع الجارة الهند، كانت تطالب باكستان ببذل المزيد من جهودها في محاربة الإرهاب!

إن مبعث الشك حول رواية البيت الأبيض التي باتت أشبه بروايات الخيال العلمي، مرتبط بنزعة الهيمنة الأمريكية على العالم بأكثر من صوت وحدث ونهاية، بتزييف الحقائق تارةً، وادّعاء القدسية تارةً، وعلى طريقة مكيافللي تارةً أخرى. فإغراق باكستان في فوضى ربما تفضي إلى تفكيك مفاعلها النووي وشل قوتها الذاتية، وكجزء من شل قوة حليفتها الصين، الندّ المحاور القادم لأمريكا؛ يأتي كرغبة ملحّةٍ لدى أمريكا وحلفائها وبخاصة الهند التي كان تصريحها ينم عن واحدية الهدف حيث قالت بأن هذا دليل كبير على أن باكستان متورطةٌ في دعم الإرهاب! وكل ذلك وعين أمريكا على الدولار، وضرورة بقاء سيطرته على السوق العالمية، مقابل إنهاك موارد اقتصاد الدول الأخرى التي ستذهب للجانب العسكري والأمني، وهنا تنشط خلايا تجار الحروب والأسلحة، وبثقافة الخداع والتضليل يحشد أوباما مع عناصر السي آي إيه، المواقف الدولية للتدخل في شؤون هذه البلدان تحت كل المسميات، فيتحقق إرهابٌ منظّم ووحشي وخبيث تمارسه إمبراطورية كبيرة لتدارك التهاوي، كسنة من كان كان قبلها!

وبالنظر إلى المنطقة العربية مكمن الثروة ومنجم الذهب، فإن واقعا من الاحتقان والتشظّي والشعور بالألم والمعاناة قد أدى إلى تفجّر الأوضاع كما نرى اليوم. وولّد ثوراتٍ شعبيةً تريد تغيير الجذر السياسي والثقافي والاقتصادي الراهن، وهو ما يحتاج وعياً جماعياً وعملاً جاداً يضمن النقاء والبقاء للثورات. وخارج هذا، فإن أمريكا وإسرائيل بالتحديد ستفتش في الداخل عن مناطق موبوءة -ولن تعدم- تعمل لصالح تدخّلاتها المعلنة بممارسة الحرية والتدريب على الديمقراطية، والمخفية بضرورة نشر (الفوضى الخلاقة) وعدم السماح لاستقرار سياسي، وإيجاد الثورات المضادة من الداخل، كما يجري الآن في ثورة مصر.

إن مما لا شك فيه أن الإمبراطورية تتكئ في سياستها على فلسفة نفعية ينظر لها باحثون وسياسيون معتبرون، من خلال دراسات ورؤى مستقبلية وتنظيرات، ترمي إلى تحقيق استمرار القدرة والهيمنة للإمبراطورية على كل المستويات، وهي لا تعترف بغير مصالحها والحفاظ عليها، ولا تجد غضاضة من إبداء ذلك علانية. يبقى الغريب أن نجد من يبرؤها أو يرى فيها وجهاً حقيقياً وجميلاً لحضارة اليوم! وهؤلاء (المثقفون جداً) يخطئون مرات، فالواقع بأحداثه يضرب بوجوههم ثقافتهم القاصرة أو المنافقة، ومجتمعاتهم تجد الكذب والتزييف من حيث يفترض أن تجد النور والوضوح والصراحة ومواجهة الحقيقة، سواء على مستوى أنظمتنا العربية الخادمة أو أنظمة الغرب المهيمنة. فإلى متى سنظل نتحمّل من يجرّب عصاه فينا، وربما غيّرها دون أن ندري!

إشارات:

- أحد هؤلاء (المثقفين جدا) ظهر على إحدى الشاشات ليقول إن قرار أوباما بعدم نشر صور لأسامة بن لادن بعد قتله كان حكيما لأنه يثير حفيظة أتباعه!! وهو قول يعكس للأسف سطحية الفكر أو ارتهانه لغيره. فهل غفل أم تغافل عن أن الإدارة الأمريكية لا صور لديها أساساً! ففاقد الشيء لا يعطيه! وللخدعة بقية..

- فضائية عربية تقدم برنامجا موسوما بصناعة الموت، تجهّز لنا مذيعتها في كل أسبوع طبقا من الدماء التي يصنعها (الإرهاب)! فإذا كان بن لادن وأتباعه قد صنع كل هذا الموت للعالم، لمَ لم تقدم لنا في حلقة واحدة –ويكفينا- كيف صنعوا له الموت وذاق من الكأس نفسه؟! أم أن الأمر في الحالة هذه معجز؟! وللرواية فصل لم يكتب..

- تسعى أمريكا دائما إلى كسر الصورة وهز السائد، كما حدث حينما حاولت عبثاً إنزال رمزية صدام حسين من فوقيتها، كانت قصوره المشيدة رمزاً لكبريائه المعهود وشجاعته النادرة والظاهرة! ففبركوا صورا لقبوٍ صغيرٍ في مزرعة نائية قالوا أن صدام حسين كان (يختبئ فيه)!! وبالمقابل تحاول الآن كسر صورة بن لادن في الأذهان فقد كان أسامة بن لادن في قصر (أدهش الأمريكان!) ولم يكن الرجل الملياردير في كهوف تورا بورا محارباً يحمل بندقيته! سيناريو لم يكتمل بعد..

* طالب دراسات عليا في جامعة الملك سعود بالرياض

زر الذهاب إلى الأعلى