أرشيف الرأي

الثورات العربية المعاصرة.. بين عوامل الداخل وعوامل الخارج

يفقد المرء صوابه وهو يمعن -مفكرا- في العوارض التي تعصف بالحكام والدول العربية اليوم، من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ولا يكاد يهتدي إلى رأي إلاّ ويفاجأ برأي آخر، فيتساءل على أوجاع الحال والآتي: من أين جاء هذا الزمن الهادر مشهرا بيارق التثوير والتغيير؟ هل استقدمه بؤس الحالة وكآبة الوجوه المعتقة؟ أم جاء على اشتهاء وجوه أخرى؛ وجوه تتوارى خلف حدود الجغرافيا والسياسة وأخواتهما؟

إن هذه العوارض، بتداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ونحوها، قد جعلت الناس على فئتين أو أكثر، تتباين في الفكر والاتجاه، وهم وفق ذلك لا يُمْسون ولا يصبحون إلا على جعجعة الجدل الأعمى، الذي تؤجِّج معه كل فئة أنصارها تجاه أضدادها، وتنظر كل فئة إلى سواها نظرةً لا توافق فطرة أو عقل، بحيث يرسم كل منهم صورة مرعبة عن معالم المستقبل الذي تنتظره الأمة في كنف الطرف الآخر، من خلال تزييف الوعي، وتغييب حقائق وسنن الحياة مع إطلالة كل عهد جديد تمر به أي أمة.

ثم يجيئ رأي الحياد على وجوه هذا المشهد المتنافر، فيُقابَل بالألفة والرضى تارة وبالنفور والتسفيه تارة أخرى، من هذا الطرف أو ذاك، لأن حيادتيه -كما يرى البعض- لا تصنع فعلا إيجابيا مستمرا في ساحة ما يجري بين الفرقاء، بل قد تجعل كلاً منهما على طريق الخطأ، الأمر الذي يقلل من رجحان كفة كل فريق. وقد يتع إلى صوت رأي الحياد ويفصح بما لا يعجب رغبة الفرقاء، ليقول: إن معاناة الأمة تكمن في حكامها المستبدين، الذين اعتبروا السلطة مغنما خُصوا بها، لا مغرما ابتلوا بأعبائها، ولذلك نراهم يعمدون إلى إعمال الاستبداد والتسلط على نحو مؤدلج، من خلال تنويع منظومات السيطرة وأدوات القمع، وإسناد مهام الحكم إلى المقربين منهم، دون اعتبار لمستحقات الوظيفة وواجباتها، وهم على هذا النحو يديرون شئون الأمة بمقتضى الهوى لا بمقتضى الحكمة- كما يرى عبد الرحمن الكواكبي(1854-1902م) في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" وعلى الفهم الخاطئ لقاعدة ترسيخ قوة العصبية في الإدارة واستتباب الحكم، كما يطرحها عبدالرحمن بن خلدون(1332-1406م) في مقدمته الشهيرة.

وقد نلحظ في الوقت ذاته أطراف حياد أخرى، تبدي رأيا مغايرا فيما يجري، فهي ترى أن مبعث بلاء الأمة هي الشعوب ذاتها، وأن صمتها عن مصادرة حقوقها أقوى بواعث الاستبداد والطغيان السياسي، وأن هذا الصمت هو أبلغ دلالة على رضاها بما يقع عليها. كما أن الناس ينزعون إلى الفوضى والاستئثار بالجاه والثروات دون مراعاة التساوي مع غيرهم، فتدركهم يد الحاكم العادل، فيكرهون ذلك، لأنها تعيق ذلك النزوع أو تحد منه، فيخرجون ناقمين عليه تحت أي ذريعة، لذلك نرى الحكام على مدى التاريخ الإنساني يعللون ما يلاقونه من التذمر وعدم الرضى من قبل شعوبهم بأنه سمة من سمات العلاقة التي تجمع الحكام بشعوبهم، لذلك نجد ابن الوردي- وهو من رجال القرن الثامن الهجري- يسوق لهذه الثقافة، حيث يصف هذه الحالة بقوله:
إنَّ نِصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ وُلِيَ الأحكامَ هَذا إنْ عَدلْ

لا يسعني هنا، أن أقف دون رأي، وعليّ كواحد من هذا المجموع أن أدلو بدلائي. وبالتأكيد لست وحدي من يتبنى الرأي الذي سأبديه، بل ربما يقف معي كُثر. مبدئيا، أنا لا أؤمن بنظرية السبب الواحد، مع أني أؤمن بفاعلية وأثر أقوى الأسباب، ولذلك، لو وضعت نصب عينَيّ ما جرى ويجري من اضطرابات ثورية على امتداد تراب الأمة، من المحيط إلى الخليج، سأجد أنه لا يوجد سبب واحد دون سواه يقف وراء ذلك، سواء في هذا القطر أو ذاك. ولعلي هنا سأكون مضطرا بأن أضع الأسباب وفق التوصيف القائم على مكانية السبب، فيكون لدينا العامل الداخلي المتمثل باستبداد الحكام واستخفافهم بشعوبهم، وحرمانهم من حقوقهم وحرياتهم السياسية والدينية، وممارسة التضليل عليهم عبر الوسائل الإعلامية المختلفة، في ظل صمت تلك الشعوب، وتغاضيها ورضاها بالقهر الواقع عليها. ويكون العامل الآخر ممثلا بالعامل الخارجي، القادم من خارج حدود الجغرافيا، بعد أن يفقد أولئك الحكام سيطرتهم على شعوبهم، مع تغلغل موجات المد الثوري التغييري في مناطق الدولة، كما هو حاصل اليوم في ليبيا واليمن.

وأعتقد أن العامل الخارجي من العوامل المتبدلة بحسب المصالح والمنافع التي تجنيها الدول ذات النفوذ، أياً كانت هويتها أو موقعها الجغرافي بالنسبة إلى الدولة الأخرى، حيث تُعمِل تلك الدول قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية في شئون الدول التي لا تتمتع باستقلال القرار، ويزداد نشاط ذلك التدخل في ظروف ضعف سلطة النظام وشيوع الاضطرابات السياسية، ومن أمثلة ذلك النفوذ؛ هيمنة بعض دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الأخيرة وفق استراتيجية أمنها القومي، فإنها تقحم نفسها بقوة في قضايا الصراع العالمي، وتحاول بشتى الوسائل أن يكون نهاية الصراعات لصالحها، سلما أو حربا!!

والآن، لنتأمل ما جرى ويجري في بعض الساحات الساخنة في المنطقة العربية، ومن ذلك مملكة البحرين. إن مسألة اندلاع الأزمة أو الثورة هناك لها عواملها المختلفة، بصرف النظر عن دور الطفرة النفطية التي تسود الدول العربية الواقعة على حافة الخليج، والمستوى المعيشي الجيد لسكان تلك الدول، فهناك العامل السياسي والعامل العقدي الديني. ولذلك تتجاذب هذا البلد العوامل الخارجية أكثر من العوامل الداخلية مع وجود تلك الحالة من الرخاء المعيشي، ويتقاسم تلك العوامل -بشكل رئيس- المملكة العربية السعودية، وجمهورية إيران، والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، ولذلك نرى أن العامل الخارجي أثَّر ويؤثر كثيرا في مجريات تطلعات الداخل، بالسلب أو بالإيجاب، في كل اتجاه ووفق هوى كل طرف، وها هي ذي ثورتهم تُجرُّ على مرأى الجميع إلى مجاهل النسيان، تحت مشيئة قوى الخارج المتحالفة مع النظام، وفوق طموح الداخل الواقع تحت قهر هذا النظام وحلفائه.

ولنلقي نظرة خاطفة في ما يجري في ليبيا، بصرف النظر عن التوصيف الذي يناسب الأحداث التي تجري فيها، أهي ثورة حقيقية أم انقلاب عسكري مدبر؟ سنجد أننا نقف أمام حكم فردي يؤسس لمرحلة حكم أُسَري مغلف بمظهر ديمقراطي شعبي، عبر ما يسمى اللجان الشعبية. وقد دام هذا الحكم أكثر من أربعة عقود، أدرك بالفطرة مللُ بقائه المحكوم، وخلق من العوامل الداخلية الدافعة لنزعه مثلما خلق من العوامل الخارجية المتربصة به لأكثر من عقدين، لاعتبارات الثروة والتاريخ والسياسة.

لقد كان العامل الداخلي مدخلا سهلا ومتاحا لقلب كرسي حكم القذافي الذي عُمِّر في ليبيا أربعة عقود، ومع هذا العامل أطل العامل الخارجي بشكله البشع، على نيران الحرب ودماء الأبرياء، لأن الوقت قد حان لاستئصال الصداع الذي يؤرق جنوب أوروبا وغربها وحليفها الأمريكي، ويبدو أن الطبيب الفرنسي هو من تكفل بمهمة التطبيب هذه، وستبين الأيام ذلك، وهو ما يلحظ من الدور الفرنسي النشط في هذه الأزمة، وما يحظى به الثوار من مباركة فرنسية، والاعتراف المبكر بثورهم في المناطق التي يسيطرون عليها، كنواة لدولة في الشرق الليبي، بحسب ما يخبئه المستقبل أو ما يتفق عليه المتقاسمون.

يذكرني هذا الحدث بدور المخابرات الفرنسية التي ترصد منذ عقود ماضية توجهات ليبيا القذافي فيما وراء مياه المتوسط، سواء في أراضي فرنسا أو أراضي الدول المجاورة، إلى تخوم مناطق الغرب الروسي" الاتحاد السوفييتي السابق"، الذي كان يبادله الولاء والمنفعة، فكان تركيز جهاز المخابرات الفرنسية -كذلك- على قضايا ما يسمى الإرهاب، وفي دعم المقاومة الفلسطينية، والثوار الايرلنديين، والحركات الثورية الأخرى في القارة السوداء، وفي الأمريكيتين، وفي آسيا. هذا ما تناوله رجل المخابرات الفرنسي "كونت دي مانشيز" والأمريكي "دانيرا. أندليمان" في كتابهما: الحرب العالمية الرابعة.

إن الصورة في ليبيا لتبدو تكرارا لما حدث في جمهورية أفريقيا الوسطى، في عهد رئيسها "بوكاسا" في سبتمبر 1979م، وكيف أن المخابرات الفرنسية استغلت خروج الرئيس إلى ليبيا، وساعدت على وقوع انقلاب عسكري ضده، في بضع ساعات، لم يستطع الرئيس حينها العودة من طرابلس إلى العاصمة بانجوي، واعترفت حينها فرنسا بالنظام الجديد الذي تزعمه الرئيس الجديد "داكو" في عملية استباقية من فرنسا أمام أي تدخل خارجي أوروبي أو أمريكي أو أفريقي، وهو نفسه- كما يبدو لي- ما يحدث في ليبيا في أزمتها الراهنة، وهو ما يشي بضلوع المخابرات الفرنسية في ذلك، وما يزيد الأمر شكوكا، الحشد الأوروبي والأمريكي تحت اللواء الفرنسي، الذي تبورت معالمه الظاهرية في قوات حلف الناتو.

والآن، وبعد هذا العرض المقتضب لما يجري في البحرين وليبيا، كيف يمكن النظر إلى العامل الخارجي في إدارة ما يجري في اليمن؟ لست مبالغا أو متحيزا لطرف إذ قلت جازما أن العامل الخارجي ما هو إلا ارتداد لعوامل الداخل التي تأزمت خلال عقدين من الزمن، وبالتالي فإن العوامل الخارجية ترافق الأحداث اليمنية مع كل ظهور لها، وتوجَّه تلك العوامل من معاقلها المعروفة، وعلى نمط واحد، هو: نحن أولا، واليمنيين ثانيا، في أي تسوية لأي أزمة، وها هي ذي الثورة الشبابية الشعبية تستدرج كأختها في المنامة، على إيقاع زائف اسمه المبادرة الخليجية، وربما ينسحب-ولا نرجو ذلك- الحال الليبي إلى اليمن.

إن الشأن اليمني لا يبعد كثيرا عن الشأن البحريني والشأن السوري الذي أغفلنا ذكره لوقوعه بين الحالات الثلاث، ولا يختلف الوضع اليمني مع حالة البحرين إلا في قليل، وإن كان النضوج السياسي لدى الثوار في اليمن أكثر من نظيره هناك، فالقوى الخارجية التي تتحكم بأزِمَّة الثورة والنظام الحاكم في اليمن هي ذاتها التي تتعامل مع حالة البحرين، غير أن قوى المعارضة في اليمن تتمتع بصلات وثيقة بالقوى الخارجية التي تبدي مرونة واضحة مع النظام، ولذلك فإن الثورة الشبابية في اليمن أخذت خلال مائة يوم تراوح بين صداها الهادر الذي بدأت به، وبين صمتٍ هو أشبه بصمت الساعين في الحل، وإن بدت في الأيام القليلة الماضية كما لو كانت في عنفوان حضورها السابق، ولذلك الحال ما يبرره.

لذلك تبدو صورة العامل الخارجي في اليمن هكذا؛ هنالك ثورة، وهنالك مطالب مشروعة، وهنالك مستقبل يخيف الجار ويؤرق مضجعه وحدوده، وربما توهم هذا الجار ومن معه أن ما ظُفر به في المنامة سيظُفر به صنعاء. وهنا، تجري على قلق علامات الاستفهام فوق كل الشفاه اليمنية: تُرى، كيف ستكون النهاية؟ أكما يشاؤون أم كما نشاء؟!!

زر الذهاب إلى الأعلى