أرشيف الرأي

المملكة تتوه في اليمن!

حين تتقهقر الدول الكبرى عن التدخل في الشأن اليمني تتقدَّم السعودية بوصفها الوكيل الحصري لإدارة الأزمات اليمنية المُقعدة والتي يبدو أن الإدارة السياسية الدولية تقف عاجِزَة عن حلها؛ رُبَّما للطبيعة الشائكة والمتشعبة التي جُبلت عليها مشكلات هذا البلد، وهو ما يعطي للسعودية هذا الدور المحوري والمحيّر الذي ظلت تلعبُهُ منذُ ما يقرب من قرن تقريباً استناداً إلى وصية مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود لأبنائه حين قال لهم (خيركم وشركم يأتي من اليمن)، وهو ما ظلَّ يعتمل في عقل آلة الحُكم السعودية التي أصبحت لاعِباً رئيسياً (ورُبَّما مُرجحاً) في الواقع السياسي اليمني.

وخلال عقودٍ مضت، كانت المملكة العربية السعودية الثابت الوحيد الذي تتفق عليه كل الأطراف المتنازعة في اليمن، بينما احتفظت هذه الأخيرة بعلاقات متعددة ذات طابع انشطاري ورأسي وعام في بعض الأحيان، فعمدت إلى بناء علاقات متينة مع القبيلة من موقِع تأثيرها الفاعل في الواقع اليمني، وتمخض عن ذلك استمالة القبيلة اليمنية واستخدامها كمؤثر في ترجيح كفَّة الصراعات في اليمن لصالح وجهة نظر السعودية، بالإضافة إلى مسألة أكثر أهميَّة وهيَ الشعور بالأمان من حركة القبيلة اليمنية غير المتوازنة وغير المحكومة في العادة، وهو ما كان يمثِّل تهديداً حقيقياً للجارة الكُبرى حالَ انهارت الدولة في اليمن أو حتى في حالة بقاءها، ما دام هذا البقاء لا يضمن سيطرتها الكاملة على سلوك القبيلة اليمنية المتمرِّد.

يمكن وضع التأريخ الأول لنشوء العلاقات اليمنية السعودية إبان الحرب الحدودية التي خاضتها المملكة المتوكلية الهاشمية مع دولة "الأدارسة" وحلفاءهم "المملكة السعودية" في محاولة منها لاستعادة واحتي عسير ونجران إلى الحاضنة اليمنية، وبدلاً من استعادة الواحتين المذكورتين اضطرَّ الجيش اليمني المُنهك من هزيمته السابقة أمام البريطانيين للانسحاب مفسحاً الطريق لمعاهدة الصلح بين إمام اليمن وملك السعودية في العام 1934 فانضمت "جيزان" إلى الحاضنة السعودية مع نجران وعسير، وبموجب هذه المعاهدة نُظمت العلاقة بين البلدين آخذةً طابعاً ندياً وسلمياً في ذات الوقت، ولم تصل العلاقة إلى التطبيع الكامل بفعل الخلافات العقدية والسياسية التي كانت تُمايز بين النظامين "الشيعي الزيديّ في اليمن والسلفي الوهابيّ في السعودية"، لكن الطرفين حافظا على قاعدة "لا ضرر ولا ضِرار".

لكنّ الأمر لم يعُد كذلك بعد ثورة سبتمبر 1962، التي أطاحت بحكم الأئمة الزيديين، إذا تحول هؤلاء من أعداء إلى أصدقاء وحلفاء للمملكة في مواجهة المدّ القومي الناصري الداعم للثورة ولقيام الجمهورية في اليمن، وهو ما كان يثيرُ مخاوفاً عميقة لدى النظام السعودي من مغبَّة الثورة وجمهوريتها الوليدة على بُنى النظام والدولة في المملكة، ليأتي انقلاب 5 نوفمبر 1967 ضد نظام الرئيس السلال في شمال اليمن، والذي جاء كنتيجة للصراع المحتدم بين الجمهوريين التقليديين بقيادة الزبيري والنعمان "حاملي مشروع الملكيَّة الدستورية" بالإضافة إلى الشيخ عبد الله الأحمر، وبين الجمهوريين الطليعيين المحسوبين على مصر عبد الناصر بقيادة الرئيس عبد الله السلال ونائبه عبد الرحمن البيضاني، ولعلّ مقتل الزبيري عام 1965 بمضاعفاتهِ، وذريعة التدخلات المصريَّة في الشئون اليمنية، قد ساهم في إنجاح الانقلاب الذي حَمَل القاضي عبد الرحمن الإرياني إلى سُدَّة الحُكم، بما عُرف عنهُ من اللين وضعف الشخصية، الأمر الذي صعَّد من حدة الصراعات الداخلية بين فرقاء الصف الجمهوري مثمراً عن اقتتال داخليّ وهشاشة في مؤسسات الدولة وفساد مالي وإداري كبير، قوَّض من قوة الموقف الرسمي اليمني في ظل التجاذبات الداخلية، وأفشى عن عجزٍ سياسي فادح لدى النظام اليمني، فكان من نتائج ذلك نشوء العلاقة الأكثر غموضاً بين القبيلة اليمنية والنظام السعودي الحاكم.

واللافت أن العلاقات اليمنية السعودية عادت إلى مناطها الطبيعيّ بين السلطتين السياسيتين للدولتين إبان فترة حكم الرئيس إبراهيم الحمدي، حيث أخذت بالتطور بعد زيارة الحمدي للرياض عام 1974م، وما تمخض عن هذه الزيارة من عقد المؤتمر الأول للمغتربين عام 1976م والذي جاء ملازماً للنجاحات التي حققتها الدبلوماسية اليمنية في ضمان حقوق الشغيلة اليمنيين في المملكة وتضمين امتيازات خاصة بالعمالة اليمنية ضمن التشريعات والأنظمة الخاصة بالعمل في المملكة.

وباستثناء فترة حكم الأئمة الشيعة والرئيس الحمدي، فإن أطرافاً أخرى "غير السلطة السياسية" في شمال اليمن شارَكت في بناء العلاقات اليمنية السعودية على أساس المصالح المشتركة بين هذه الفئات والمملكة.

أما جنوباً فقد حققت المملكة العربية السعودية الكثير من النجاحات من خلال علاقتها بالسلطة السياسية في الجنوب بعد سنوات العداء، حيث أسفرت استمالة المملكة لنظام الرئيس علي ناصر محمد ووعود الدعم الاقتصادي والعسكري عن قرار النظام الاشتراكي في الجنوب إيقاف الدعم عن جبهة تحرير ظفار والتي كانت تقود ثورة شعبية ضد نظام الحُكم في عُمان آنذاك، الأمر الذي أعفى السعودية حينها من مواجهة النفوذ الإيراني القادم إلى جزيرة العرب عقب محاولة السلطان قابوس بن سعيد الاستعانة بشركاء العقيدة الشيعية في إيران لمواجهة ثورة الشيوعيين المدعومة من النظام الماركسي في اليمن الجنوبي آنذاك، وهو ما كان يمثل قلقاً للسعودية، ناهيك عن ضمور المحاولات الأولى لتأسيس حزب شيوعي في باطن المملكة العربية السعودية مستنداً في طموحاته إلى دعم مفترض لم يعُد لهُ وجود من النظام الشيوعي في الجنوب.

لكنَّ قيام الوحدة اليمنية بين شطري اليمن عام 1990م حمل معه انتكاسة كبيرة في العلاقات السعودية اليمنية، حيثُ تسبب تخبط الموقف الرسمي اليمني ودعمه للغزو العراقي للكويت وما تلاه من مضاعفات إلى سوء العلاقات بين البلدين وعودة مليون مغترب من العمالة اليمنية في المملكة والخليج، وهو الموقف الذي حمَل المملكة ضمن معطيات أخرى إلى دعم الحزب الاشتراكي اليمني في حربه ل "فك الارتباط" بين شطري اليمن عام 1994م والتي خاضها ضد نظام صالح، وهو ما أسفر لاحقاً عن انتصار قوات صالح على الجنوبيين، بينما ظلَّت العلاقات اليمنية السعودية على حالها من السوء والجمود الذي لم يُكسر إلا بزيارة تاريخيَّة قام بها صالح إلى المملكة بغرض إعادة تطبيع العلاقات وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين في جده العام 1996م.

هذا الاضطراب الذي شهدته العلاقات بين البلدين إبان فترة صالح جعل دوائر الحُكم في السعودية لا تنظر بارتياح إلى علي عبد الله صالح، الذي تعتبرُه مراوغاً وانتهازيَّاً ومتمرِّداً، ومع ذلك فقد ارتأت الحفاظ عليه باعتباره "أعقل المجانين"، ولكونه لا يمثل عائقاً أمام تعزيز خطوط الاتصال بين المملكة وحلفائها التقليديين من شيوخ القبائل اليمنية، الذين لم تكُن نظرة النظام السعودي إليهم أفضل من نظرته لصالح، لكن العلاقة مع شيوخ القبائل اليمنية كانت أكثر توازناً واستقراراً وتطويعاً، وتمكنت المملكة من خلال علاقتها مع القبائل اليمنية سواءً أكان ذلك عبر اللجنة الخاصة أم عبر المكرمات الإضافية من تحقيق الكثير من أهدافها.

هذه العلاقة مثلت عامل استفزازٍ مهم لصالح؛ إذ يعتقد الأخير أنَّه المعني بأي علاقة نفعيَّة تخصُ أطرافاً في الداخل اليمني، أيَّ أن انزعاج صالح من العلاقة بين القبائل والمملكة السعودية لم يكُن بدافعٍ الحفاظ على القرار السيادي، ولهذا حافظ الأخير على نشاطه ضمن جبهة حُلفاء السعودية لأسباب مختلفة، بل وتبرع أحياناً بتقديم المواقف الداعمة للمصلحة السعودية لتفويت الفُرصة على حلفاء السعودية الآخرين في الداخل اليمني.

إذن؛ 80 عاماً من الجِوار بين اليمن والسعودية تقول أن علاقة الشقيقة الكُبرى باليمن كانت أكثر توازناً وإيجابية عندما كان النظام السياسي اليمني قوياً على الصعيد الداخلي بينما تأرجحت أدوار السعودية باتجاه تعزيز نفوذها كلما ضعفت قوَّة الدولة، وهذا يتأتى بدواعي حفظ أمن المملكة واستقرارها من حيث المبدأ، ثم سعي المملكة للحفاظ على مصالحها في ظل غياب رؤية يمنية موحَّدة يمكن البناء عليها، وفي هذه الحالات من ضعف الدولة اليمنية كان القرار اليمني أكثر ارتهاناً للخارِج، وبالتحديد للمَملَكة العربيَّة السعودية.

من هُنا تأتي نقمة بعض الأطراف في المعارضة السياسية اليمنية على السعودية، ومن هُنا أيضاً يأتي الموقف "الثوري" المناهض لسياسات المملكة في اليمن، لكنَّ هذا الموقف ذو الطبيعة الآنيَّة (حيث لم يكن الحال كذلك قبل أشهر) لم يعكِس في حقيقته وعياً كافياً بمحفزات ودوافع سياسات المملكة التي تخشى أكثر من غيرها من انهيار الدولة اليمنية بما يضيع البوصلة على المملكة في التعامل مع الطرف اليمني الذي ستتعدد بالتأكيد قواه، بما يعطي احتمالاً كبيراً لتناقض سياسات وتوجهات هذه القوى، ويجعل مهمَّة المملكة أصعَب في التعامُل مع اليمن إذا ما نجحت الثورة.

وعلى ذلك يمكننا أن نستنتج أن المملكة غير مهووسة بالمصلحة اليمنية العُليا فضلاً عن سعيها لتقدم اليمن وازدهاره، أو لإنجاح ثورته، لكنَّ الأطراف اليمنية المعنية في علاقتها مع السعودية خلال عقود مضت أثبتت هيَ الأخرى أنها لم تكُن مشغولة إلا بمصالحها الخاصة؛ الأمر الذي أضعف من هيبة الدولة اليمنية وقادتها السياسيين، ناهيك عن سياسة الابتزاز والتحايل التي تنتهجها أطراف يمنية قبلية ورسمية مع رب المال السعودي، وست جولات من الحروب التي خاضها النظام مع جماعة الحوثي في صعدة كشفت في بعض التفاصيل عن حجم العبث الذي أقدم عليه النظام اليمني الحاكم بغرض استدرار المال السعودي بزعم حربه ضد "البعبع" الحوثي، عامداً في ذات الوقت إلى تصفية الخصوم الداخليين واستنزافهم في حروب لا يبدو عليها أدنى نزاهة!

هذه السياسات المكيافيللية التي أقدمت عليها وجوه النظام السياسقبلي في التعاطي مع المملكة الجارة على مدى عقود كشفت سوأة اليمنيين وقللت من وزن واحترام قادتهم لدى نظرائهم السعوديين، وكثيراً ما عكست المعلومات الشحيحة المُسرَّبة عن طبيعة التعامل الشخصي والدبلوماسي من قبل أفراد العائلة المالكة مع بعض القيادات السياسية اليمنية الحليفة سواءً أكانت رسمية أم قبلية حجم التهميش الذي يتلقاه الطرف اليمني نظراً لطبيعته المتلاعبة والمرتهنة للدعم السعودي.

ولعلَّ عزوف الملك عبد الله وكبار رجالات الحُكم في المملكة العربية السعودية عن زيارة الرئيس صالح وطاقمه الراقدين في المستشفى العسكري بالرياض أبلغ الأدلة على هذا التهميش واللامبالاة.

فصالح وكبار قيادات دولته يرقدون مثلهم مثل غيرهم من مسلحي الشيخ صادق بن عبد الله الأحمر الذي خاض مع صالح أوار حربٍ شرسة قبل شهرين كان مسرحها حيّ الحصبة بالعاصمة صنعاء، والدور السعودي تجاه الطرفين لا يبدو في ظاهره أكثر من دور الراعي الإنساني لمجموعة من الجرحى والمُصابين، بيد أن الشارع الثوري يجعل من موقف الرياض غير المأخوذ بالثورة مبرراً حاسماً لتحميل السعودية كِفل فشل الثورة أو إجهاض حلم الجماهير في التغيير والازدهار.

بيد أن الثورة بمحمولها الراديكالي والجماهيري وبالتباين الذي تحمله لا تصب في مصلحة المملكة السعودية المشغولة بأمنها الذي تمثل إيران (وفقاً لوجهة النظر السعودية) أحد أهم تهديداته، إضافةً إلى حماية حدودها من تسلل المواطنين اليمنيين فضلاً عن الهجمات المحتملة سواءً أكانت من القبائل اليمنية أو جماعة الحوثي، وهذا يتعارض مع حتمية الحفاظ على استقرار الدولة الأولى في تصدير النفط ونظامها السياسي، وهذا الاستقرار المنشود بطبيعة الحال لا يقبل أي نوع من المراهنات على ثورة شعبية غير موحدة ولا معروفة التوجُّه.

ولذا؛ فالسعودية سعت على الدوام من خلال علاقتها بالأطراف اليمنية المختلفة إلى الحفاظ على مصالحها الإستراتيجيَّة وحماية أمنها واستقرارها، بينما استمرت الأطراف اليمنية المعنية بسعيها المعتاد لتحقيق مصالحها الذاتية أو الفئوية ذات الطبيعة الآنية الصرفة، ولم تسفر اندلاع الثورة الشبابية الشعبية عن تغير في أسلوب القوى اليمنية النافذة التي اتخذت من الثورة أداة جديدة لمُمارسة الابتزاز تجاه الحليف السعودي.

فصالح وجد في اتساع جبهة الخصوم المتباينة ضدَّه والتي كادت أن تجهز على نظامه طوقاً للنجاة عبر استمالة الدعم السعودي لخدمته وتقوية نظامه شبه المتهالك في مواجهة خصوم السعودية داخل الثورة، فيما وجَدَ حلفاء السعودية الآخرين في الثورة فرصة جديدة للفت الأنظار إليهم بعد دخولهم على خطّ الثورة وتثبيط قرارها بموازاة دعم سعودي محتمل قد يؤدي غيابه إلى تجميح الثورة كورقة ضغط على السعودية، وهو ما فعلهُ حلفاءٌ آخرون لم تتوفر مصالحهم مع الراعي السعودي فاتجهوا للضفَّة الأخرى، محتفظين بشعرة معاوية التي قد تصبح ذات جدوى.

لقد ضيّع اليمنيون فرصة من أهم واثمن الفرص التاريخيّة، حين أساءوا للنموذج الأخلاقي والحضاري المشرف الذي قدموه إبان نشوب الثورة الشعبية العارمة التي عمت أرجاء البلد، فلم يكن هيناً بالمرة خروج اليمنيين إلى الشوارع والساحات بدون أسلحة ولا متفجرات ولا حروب سعياً منهم للتغيير والتخلص من يمن موبوء بالتخلف والجهل والفقر والمرض، لكن هذا النموذج لم يجد التقاطه ناضجة وأخلاقية من القوى السياسية التي تبرعت بالدخول في مساومات مع النظام الحاكم، حيث تحولت المواجهة من مواجهة فاصلة بين نظام استبدادي يحمل مشاعل التخلف والفشل وشعب متطلع للتغيير، إلى مواجهة رخوة بين طرفين سياسيين بارعين في الانتهازيّة، لتدخل الثورة بعدها في لعبة المقايضات في المواقف، والمصالح الضيقة للأطراف السياسية وبعض القيادات الكبيرة، وهي اللّعبة التي تدرك السعودية "كلاعب مؤثر في السياسة اليمنية" أكثر من غيرها مدى رداءتها، ولتفتح أمام المملكة الجارة قشرة الأسرار للقوى التي استبطنت الفعل الثوري العظيم لتجييره – كما جرت عادة أغلب النخب اليمنية المعاصرة – لمصالحها باسم الشعارات البراقة، وليكون قدر الشعب اليمني أن يخسر أحلامه العظيمة بفضل من صعدوا عليها ليقودوه وإياها قرباناً بخساً لأحلامهم الرخيصة.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى