[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

خمسة عقود.. بين رحى الحرب الداخلية ورحى القوى الخارجية

منذ ما يقرب من خمسة عقود، واليمن لا تنفك تخرج من حرب إلا وتدخل أخرى، بدءا من حروب الثورة وحروب التحرر الوطني بين عامي 1962-1970م، ومرورا بما عرف بحروب الشطرين عام 1972م، وعام 1979م، ثم حرب صيف 1994م، وانتهاء بحرب أو(حروب) صعدة بين عامي 2006-2010م، فضلا عن الانقلابات العسكرية التي تخللت تلك العقود الخمسة، وما رافقها من أعمال عنف عصفت بمقدرات الأمة وخيرة رجالها، وحرمتنا من مشاريعهم التنويرية والتنموية التي وئدت معهم. أما خيارات السلام التي تفادينا بها وقوع حروب مؤكدة الحدوث فقد كانت مكلفة ومجحفة بحق اليمن، وهو ما تترجمه اتفاقيات الحدود المبرمة مع كل من: سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، وكذا قبول التحكيم الدولي في قضية الاعتداء الإرتيري على جزيرة حنيش في ديسمبر عام 1995م، الذي وضع الجزيرة تحت قبضة احتلاله نحو ثلاثة أعوام.

أما أعمال الإرهاب، فقد امتدت لتطال اليمن من الساحل إلى الصحراء، بل وبلغت جرأة الجماعات الإرهابية أن طالت أعمالها أهدافا جوية، كظاهرة جديدة بالنسبة لليمن، إذ تعرضت طائرة تابعة لشركة هنت النفطية لصاروخ(أرض/جو) بالقرب من المجال الجوي لمطار صنعاء الدولي أواخر عام 2002م. كل ذلك لم يقدم إلا صورة مشوهة عن أخلاق اليمنيين، وجعلت من البلاد ساحة أخرى للصراع مع الغرب على نحو ما يجري في تورا بورا وقندهار، بل فتح ذلك العمل بابا جديدا من أبواب الصراعات الداخلية بين المؤيدين والمناوئين لها، ومكن من التدخل الخارجي المعلن وغير المعلن الذي لم نعهده من قبل، ولم تكن أعمال الإرهاب تلك -على ما يساق لها من مبررات مرفوضة- خالصة لعيون هذا الوطن، ولا لمعتقده الديني أو الفكري، مثلما أنها لم تبلغ من الضرورة مرتبة يمكن أن تنال بموجبها رضا الأمة.

في أي ظرف سياسي مضطرب، أو حرب مستعرة، أو انقلاب عسكري، أو عمل إرهابي، في أي بلد، يجري على ألسن العقلاء سؤال تتوارى إجابته عن العامة والبسطاء من الناس، ويدرك بُعد دلالاته الخفية المخططون والمُسعِّرون لهذه الأوضاع، هذا السؤال هو: لمصلحة من يجري ذلك؟ وما هو مصدره؟ هل هو من صناعة قوى الداخل، أم من صناعة قوى الخارج؟ أم من كليهما معا؟ ويندرج تحت هذه الأسئلة أسئلة أخرى، ربما تكون إجاباتها من الأمور التي يصعب تصديقها من كل ذي عقل!! ومع كل واقعة من تلك الوقائع التي كانت تجري في اليمن، كنا نتساءل الأسئلة ذاتها، ولا شك أن لكلٍ رأيه وقناعته فيما يعتقد ويطرح، لكنها وحدها الحقائق هي التي تعزز تلك الآراء والقناعات، ولست هنا بصدد الغوص في أدق التفاصيل وبيان الأدلة إزاء ذلك، لكن قد يكون من المهم الإشارة إليها بشكل مقتضب، ذلك أن المقام لا يحتمل أكثر من هذا الطرح.

في مسألة تحميل قوى الخارج تداعيات ما يجري في اليمن، لا أوافق البعض ممن يذهب إلى رفض فكرة إلقاء اللائمة، وعدم تحميلها وزر ما يجري، بل سيكون من المفيد التركيز في دراسة ذلك ووضع الاعتبارات المختلفة لها، ومحاولة فهمها وسبر أغوارها، من خلال تحليل مجموعة متغيرات القوى الداخلية ذات الارتباط بعوامل وقوى الخارج، باعتبار أن مراكز قوى الداخل أهم عنصر في أي صراع عسكري أو سياسي داخلي، ذلك أن علاقات الدول ومصالحها كانت وما تزال قائمة في جزء كبير منها على التشابك النفعي والولاء المُموَّل، بما يمكن توجيه نتائج الأحداث غير المرغوبة بعيدا عن حدود الجغرافيا لدول القوى الخارجية، أو عن حدود مصالح الدول المتحكمة بالأوضاع عالميا في مناطق الصراعات، وهو ما تفعله دائما القوى الكبرى أو حلفاؤها.

مع نهاية 1978م ومطلع عام 1979م، كان يجري حثيثا إعداد دولة الشمال في صنعاء من قبل أطراف خارجية مؤثرة ومعلومة، وبمساندة قوى إمبريالية عالمية، لمنازلة دولة الجنوب في عدن، لأنها كانت تمثل بالنسبة لتلك الأطراف خطرا مشتركا، أو هكذا صور لها، واستُغل حينها التوجس الذي كانت تبديه القوى التقليدية الشمالية من المد اليساري المتنامي في الجنوب، فكانت أول ثمار تأثير قوى الخارج على اليمن تأجيج مشاعر العداء لدى الشمال تجاه الجنوب، وقد مهد لتلك الحالة مقتل الرئيس أحمد حسين الغشمي في 26 يونيو عام 1978م، وعملت جميع دوائر ذلك الحدث على إقناع الداخل والخارج بضلوع قوى اليسار في الجنوب في ذلك الحدث، وكان لزاما على الرئيس على عبدالله صالح الوفاء بما تعهد به من الانتقام من قتلة الغشمي، فكانت الحرب، لكنها خرجت سياسيا بما لم يُرضِ قوى الخارج ومن في ركابها من قوى الداخل التقليدية، وقد فتحت باب الحديث عن الوحدة من جديد.

إن من عناية الله بهذه البلاد أن يسخر لها من حين لآخر من يحررها من مشانقها التي تنصب لها، ففي أثناء اشتداد الموقف العسكري في مناطق حدود الشطرين في حرب 1979م، وجد كل من الرئيس علي عبدالله صالح، وعبد الفتاح إسماعيل الذي كان يتزعم الحزب الحاكم في الجنوب، أن الوقت غير ملائم لكل منهما لاستمرارها في هذا التوقيت بالذات، مع غضاضة كرسيّي الرئاسة اللذين لم يمضِ على اعتلائهما أكثر من سبعة أشهر، لا سيما وقد أدرك الأول عدم قناعة قواته في القتال وقد أبر بما تعهد به، واقتنع الأخير بما حققته قواته من تقدم على الأرض، وتمكنه من إيصال الرسائل التي أراد إيصالها داخليا وخارجيا. وجاءت قمة الكويت لتجمع بين الأخوة الخصوم في شهر مارس من نفس العام لتخمد معها نيران الحرب، ومع تراجع وطأة قوى الخارج على اليمن، ببروز الخطر الإيراني عام 1979م، بحلته الثورية الجديدة، اتجهت الأنظار شطر العراق، كمحارب بالوكالة عن تلك القوى، وهو ما لم يُعفِ -بالطبع- جيش الشمال من القتال في تلك الجبهات، تحت إملاء القوى ذاتها، وعلى اتجاه آخر، بدت الجبهة الأفغانية كأجدّ حدث يتلهى به جميع الأطراف كل على مذهبه.

لقد كانت قوى الخارج القريب والبعيد -على السواء- ذات تأثير كبير في الشأن اليمني خلال الخمسة العقود الماضية، وسقط في فخاخ قوى الخارج كل منتفع من قوى الداخل، على اختلاف مواقفها السياسية، وانتماءاتها القبلية والأيديولوجية، الدينية والفكرية، المؤتلفة أو المختلفة معها، وأضحت اليمن معها ميدانا مباحا لاحتدام صراعات مسلحة داخلية بالوكالة، ولتصفية حسابات مؤجلة بين القوى المرتهنة من جهة والأنظمة المتعاقبة في الجنوب والشمال من جهة أخرى، وكذا بين أجنحة السلطة ذاتها، عند كل لحظة تقارب أو تباعد بين أي من فصائل تلك الأجنحة وبين قوى الخارج الموسومة بالعدائية لها، ومثال ذلك: أحداث أغسطس في صنعاء عام 1968م وأحداث يناير في عدن عام 1986م.

ومع كل فترة استقرار في الأوضاع الداخلية لليمن، ومع كل لحظة استقلال في القرار السياسي، تطل قرون المؤامرات ورؤوسها، ويتنوع التدخل والعقاب بملمحهما السياسي والاقتصادي والعسكري، وجميعها صور ومن صور التدخل وذريعة من ذرائعه، ولذلك نرى أصدقاء أزمة وحرب صيف 1994م ممن يوصفون بقوى الخارج هم خصوم السلطة ومن معها في ظل الوضع الثوري القائم اليوم، ونرى خصوم أزمة وحرب 1994م من القوى ذاتها هم أصدقاء السلطة ومن معها في شأن الوضع ذاته. فما هي ملامح الأيام القادمة في ظل المد والجزر الذي بلغ أعتاب شهره السابع؟ وهل ستكون هناك ولادة حقيقية ليمن متحرر من قوى الخارج؟ وما هو -يا ترى- العقاب الذي ينتظر اليمن؟!!

بعد موقف اليمن المخالف لموقف دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، وموقف كل من مصر وسوريا، في شأن التدخل الغربي في قضية احتلال الكويت من قبل الجيش العراقي عام 1990م، برز للعيان العقاب الاقتصادي الذي مثله الاستغناء عن العمالة اليمنية في معظم دول المجلس، وشددت بل واستحدثت الإجراءات المتعلقة بها، ودخل الفعل السياسي المناوئ حد العلنية فيما اعترى مسيرة اليمن الموحد، وجاءت حرب 1994م بمواقف مختلفة لتلك الدول وفق قواعد سياسات الدول المتبدلة، وكان ما كان في تلك الحرب، ثم رتب في القاعات المغلقة الاعتداء الإرتيري على جزيرة حنيش كمكملٍ لذلك العقاب التأديبي، برره- أيضا- ظهور اليمن كأحد الأقوياء عسكريا في منطقة الجزيرة، عقب خروجها بما يشبه النصر في حرب 1994م، في ظل الأفول التدريجي للقوة العراقية المحاصَرة عربيا ودوليا.

لم يكن اليمنيون -وقد أمَّنوا حدود دولتهم باتفاقيات ترسيم الحدود رغم جَوْرها- يتوقعون أن حربهم التالية ستكون من مدينة السلام، صعدة، وأن قوى الخارج ستتدخل بكل قواها المختلفة، بعد أن عُبئ الداخل اليمني تعبئة انتقامية ضد إخوان لهم، هناك، وأطلت معها الطائفية المنتنة بعد أن نبذها اليمنيون طويلا، فنكأت جروحا قديمة كانت قد تعافت، وكاد الجسد اليمني يتقطع معها أشلاء، وما يزال، وخرج الإعلام الموجه من بعض قوى الداخل والخارج بصورة مشوهة لما يجري في صعدة، مبررا عثرات الجيش في الجبهات، وممهدا موطئ قدم للمساند القادم من خارج الحدود، الذي ما لبث أن غرق في بركة طموحات لم يجرب غمارها منذ أكثر من نصف قرن، وإن بدى في بعض الأحداث الحربية التي شهدتها المنطقة كحارس مرمى في منتخب قوي يغالبه نعاس الملل.

لقد عملت قوى الخارج -ومعها قوى الداخل- على جعل صورة ما يجري على غرار أبعاد ومضامين تلك الصورة التي ترى في لبنان، فظهرت أشباح الطائفية والانفصال والقاعدة، ثم عزز ذلك تداعيات الأحداث في صعدة، وبلوغ ما يعرف بالحراك الجنوبي السِّلمي المتكون عام 2004م، درجة عالية من الإقلاق، الأمر الذي ولد الخوف تجاه تشرذم اليمن، وهو ما رشح العمل العسكري كأقوى الخيارات في مواجهة ذلك، خاصة بعد أن تطرفت بعض فصائل الحراك الجنوبي في خطابها الشمولي، بحيث وضعت أخوتها في الشمال مع السلطة في ميدان قصاص غير عادل. وفي أتون تلك الأحداث خرجت من أوكارها الجماعات الإرهابية القاعدية، الحقيقية والمفتعلة، واختلطت الأوراق والحسابات، مع غموض مواقف بعض مراكز القوى القريبة من السلطة أو القريبة من أقوى رجالها، حين تبدو حراكية الهوى تارة وقاعدية الهوية تارة أخرى، في مناطق النفوذ الصحراوي والساحلي، في كل من: حضرموت، وأبين، وشبوة، ومأرب.

والآن، هل ستفلح تلك القوى، مجتمعة أو منفردة، في إنهاء صخب الساحات بحرب أهلية أخرى -لا قدر الله- وليكن بعدها ما يكون؟ أم أن خيار الحرب أمر غير مرغوب فيه، وسيكون ثمن ذلك وطن مجزأ الجسد على غرار الموضة السودانية، وزيادة عليها؟ أم أنها الفيدرالية التي يثور جدلها في محافل الساسة كأجدى حل؟ ربما تكون هذه الأسئلة مفاتيح استشراف للقارئ الكريم، لا نوافذ موصدة في وجهه، هذه ما أتمناه!!
*باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة

زر الذهاب إلى الأعلى