مثّل العام 1990م علامة فارقة بين عهدين مختلفين في تاريخ اليمن المعاصر، وكانت السنوات التي تلته سنوات مختلفة عن سابقاتها، معنى ومبنى، خاصة لرموز وقيادات البلاد، وبالتحديد للرأس الأول في اليمن، الرئيس على عبدالله صالح، الذي كان في السنوات القليلة السابقة لتحقيق الوحدة، محل رضا من قبل أغلب رجال المشهد السياسي والعسكري في الشطرين، نظرا لحالة الاستقرار التي تحققت في تلك المرحلة، مع استثناء بعض الأحداث والوقائع التي جاءت امتدادا لمرحلة سابقة لها ظروفها، ومقارنة بالأحداث والتداعيات المختلفة التي شهدها الجنوب في الفترة ذاتها.
بعد عام 1990م، دخل الأطراف المتحدون في سباق خفي دفين النوايا، برزت صورتها الأبرز لدى كل طرف، على نحو تنافسي مفلسف، مؤداه: "لن ندعهم يغلبونا" واستحوذ كل طرف على المفاصل المتاحة له في الجوانب السياسية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية للبلاد، كل في مناطق نفوذه وفي مراكز تأثيره، وأخذت إيقاعات الحرب تتصاعد مع تعاظم هدير السياسة التي تخطت حواجز الحدود ذهابا وإيابا، من رجال الداخل ونصراء الخارج، لكن أصوات المدافع -على عرف هذا البلد- كانت أسبق إلى لجم أفواه الساسة، وليس العكس، فسقط من رؤوسهم من سقط ، ونجا من نجا.
عندما وضعت حرب صيف عام 1994م أوزارها، تبدت بوضوح رؤوس البلاد التي كان يفكر بها الرئيس علي عبدالله صالح والأذرع التي يضرب بها، ولكل من تلك الرؤوس موقعها وحجمها ومدى تأثيرها. كانت القبيلة في مثل هكذا موقف، وبعواطفها الموجَّهة، هي الوقود الحقيقي لكل فعل مرعب وفوضوي، وكان شيوخها هم مسعِّرو تلك الأفعال وقاطفي ثمارها، وعلى ذات الاتجاه كان الحزب وزعيمه هما المكملان لذلك العمل في أوساط المثقفين الانتهازيين اللاهثين وراء مغانم الحرب والسياسة، وكان التشكيل العسكري وقادته بمثابة العصا الغليظة التي تحكم تلك الرؤوس، إيماء أو قرعا، ثم ما لبثت أن كانت في آخر المطاف هي الحاكم الحقيقي والمتفرد لليمن، بعد أن عبَّأت رجال القبيلة ورجال السياسة وعلماء الدين وآخرين معهم في مدافنها إلى يوم تعرف أهميته ولا تعرف ميقاته.
لقد تجسمت تلكم المنظومة لتبدو كما لو كانت كتلة ذات رؤوس متعددة، كانت هي الوطن والآخرون دونهم عدم، ثم أخذت في التمدد والتضخم، فالتهمت الأخضر واليابس، وقد انضوى في أعطافها أرباب المال الفاسد، الهارب والمهرب من خزينة الأمة، فاشتد عندئذ تنافس المتنافسين، في سباق غير مشروع، وقويت شوكة الكبار وأحفادهم، وحيكت الوقائع والدسائس، ثم تجاذب هؤلاء الأحفاد ومن معهم أطراف هذه المنظومة، وذهب كل واحد مع راعيه ومؤيده، ليبدو الحال في اليمن على الصورة التي نراها اليوم، رؤوس متعددة لجسد واحد عليل، ينظرون للآتي بعين الماضي المشحون بالضغائن، ويعدون العدة لزرع ضغائن أخرى، على أنه لا ينكر أحد أن يكون في تلك الأوساط من يحسب أنه على الجادة وهو يحسن النية. لكن؛ من هو الرأس الحقيقي والرئيس الحق في هذا البلد؟
يمكن أن نقول إنصافا: أن اليمن عاش لسنوات في فلتة من الخصب السياسي والاقتصادي والثقافي، في السنوات التي تلت مرحلة تثبيت الرئيس علي عبدالله صالح كحاكم على اليمن، وهي المرحلة التي عمد فيها إلى إعمال القوة في أول خلاف له مع زعماء الجنوب، والتي جاءت حينها على رغبات متعددة، وإن كانت سنوات ذلك الخصب لا تتعدى عدد أصابع اليدين، وكان خلالها هو الرأس الحقيقي والأبرز، لكنه مع كل واقعة مميتة تحدق به، يتوارى رويدا رويدا، ودون أن يدرك ذلك التواري، مع بروز أوتاد القبيلة المعممين بعمامتها وعمامة الدين، وكذا مع تردد أسماء لامعة لجنرالات الجيش والأمن، منهم على وجه المثال: اللواء علي محسن صالح، الذي كان على مرارة طعمه أنجع العقاقير الواجب تعاطيها لتفادي العلل.
كنا نسمع تواليا، أن أركان حرب الفرقة الأولى المدرعة، علي محسن صالح الأحمر، هو أحد أقوى أعمدة النظام وقلاعه الحصينة، ومع بلوغ حرب 1994م منتهاها، وتسلمه قيادة الفرقة -وقد كان كذلك دون هذا التوصيف الشكلي- أضحى رجل الفعل العسكري والسياسي والقبلي المؤثر في البلاد، والرأس التي يُخاف ويُحترم، فكان يقال: أنه الرئيس الظل، وأنه صانع الوزراء والسفراء والقادة، وأنه الحجاج بالنسخة المُيَمْننة التي يشاطر حلمها السيف، وعدلها الحيف، وأنه رجل القبيلة وحصن الدين في المنظومة العسكرية اليمنية وخارجها، لكن تلك الأوصاف بدت في أروقة أخرى كعورات مقلقة تستوجب الستر، ولو تطلب ذلك البتر، فاستدرج إلى ذلك مرارا، لكن الرجل كان يؤمن أن خلط الأوراق حالة فوضى محمودة، تجلب معها الترتيب الذي يضمن الحقوق، وأنّ البتر يجب أن يزيل موضع الريبة ويبقي على الرؤوس طليقة، وذلك لزوم حسن الخاتمة لكل طرف.
في حرب صعدة التي ما تزال تومض من تحت رمادها، أراد كل طرف أن يحيي الماضي على طريقته، فبين طامح في التوريث وماقت له، يمضي كل طرف في غيه، وتدفع الفواتير من جيوب الفقراء والمساكين والمرضى ومنتسبي الوطن من الدرجة الثانية، والثالثة، ويخرج الجميع بعد ست سنوات من الدماء والدمار دون نصر، لا غالب ولا مغلوب، لكن سرعان ما تدور دائرة الزمن، فتقفز حمى الثورات من قُطر لآخر، وتسقط معها العروش وتنتكس الرؤوس، ويحين دور اليمن، ويخطئ الجميع تقدير الحساب؛ فاليمن ليست كمصر، ومبارك مصر ليس كصالح اليمن، واللواء علي محسن(صالح) ليس كمشير مصر (طنطاوي).
تعالوا معي نتأمل ونفرط في الاندهاش!! في عام 1974م، كان الشاب على محسن صالح طالبا في السنة الثالثة في الكلية الحربية، وقد التحق بها قبل عامين ونيف بعد أن كان ضابطا شَرَفيا، وكان حينها رقيبا كاتبا للسرية الثانية من سرايا الطلبة، وبطبيعته المتمردة التي ترفض كل الحواجز التي تعتري قناعاته، كان له مع أنظمة ولوائح الكلية موقف جدير بالذكر، وهو موقف لا يعلمه ولا يذكره إلا زملاؤه وطلاب دُفع الكلية التي كانت تلي دُفعته ترتيبا، وبعض ضباط الكلية في تلك الفترة، وأما تفسيره فيبدو أنه جاء كرد فعل عنيف ضد القبضة القومية التي كانت موغلة في قيادات المنشئات العسكرية الشمالية والجنوبية، وبالذات التعليمية منها والتدريبية، ومنها الكلية الحربية.
لم تقف أنظمة ولوائح الكلية حينها أمام التوجه التقليدي القبلي المفعم بالعاطفة الدينية للطالب علي محسن صالح، حيث تمرد عليها معاضدا زميلا له، هو عبد الله الحاوري، الذي كان وقع عليه العقاب الإداري جراء اجتراحه أنظمة ولوائح الكلية، يوم أن أدى صلاة المغرب في ميدان تحشد القوة أمام الجميع، بُعيد فُراغ المجتمعين من إنزال العلم الجمهوري، على العرف العسكري المعتاد في الكليات والمعاهد العسكرية، إذ تقدم الطالب علي محسن صالح، بعد بضعة أيام إلى ذات المكان الذي أدى فيه زميله الحاوري الصلاة، وشرع في أدائها، ثم تبعه آخرون في مشهد جماعي متمرد لم تعرفه الكلية الحربية من قبل، ولم يكن جميع الذين تبعوه من الورع والانضباط الديني حينها بحيث يجعلهم يقدمون على ذلك العمل، والذي كلفهم يومها التأخير-عقابا- إلى العام التالي، إلا أن ذلك لم يتم لاعتبارات لا يعرفها إلا القلة ممن كانوا على مقربة من دائرة القرار، أو الساعين لاحتواء الواقعة.
وبعد أكثر من ثلث قرن، يخرج اللواء علي محسن الأحمر من قافلة السلطة التي ضاقت به وضاق بها، متحصنا بشرعية الثورة الشبابية وشتاتها الآخر اللاحق بها، داعما ومؤيدا لها سلميا -أو هكذا قال- على ذات الصفة التي أقدم عليها يوم أن كان طالبا مكتوب اسمه بالقلم الرصاص أو على الرمل في صحراء كلهاري أو الربع الخالي، كما كان يسمع من معلميه ومن زملائه ممن كانوا أقدم منه في كلِّيته العسكرية، وتبعه من تبعه من القادة والضباط والأفراد، على اختلاف رتبهم ومناصبهم العسكرية، بينهم عدد من أولئك الذي صلوا خلفه صلاة المغرب تحت علم الجمهورية في ميدان الكلية الحربية. نعم، هاهم اليوم يقفون معا في ميادين الثورة، ويصلون الجمعة، فهل ستجري المقادير هذه المرة على ذات المدار الذي جرت فيه واقعة ميدان التجمع في الكلية الحربية؟ أم أن خريف عمر الرجل لن يبدُو هذه المرة كربيعه، حتى لو كانت الثورة ربيعية القواعد والتوقيت؟!!
* باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة