تنادي بعض الأصوات في أوساط شباب الثورة السلمية في اليمن ، ومَن في قافلتهم من ذوي النزعات الراديكالية، بتعجيل الحسم الثوري، عبر اللجوء إلى العمل العسكري المسلح، وهو ما يعني انحراف الثورة الشبابية السلمية عن مسارها السلمي ودخولها مرحلة العنف، وتحول مدنٍ يمنية معينة إلى ساحات تصفية من نوع غير مألوف، إذا ما استثني من ذلك ما حدث في عدن في يناير عام 1986م، أو قد يكون الموقف أشد من ذلك.
يأتي ذلك التنادي بعد أن أغرى التقدم الذي أحرزه الثوار في ليبيا بعض المندفعين من شباب الساحات ومراكز القوى المؤثرة فيها، بعد أن طال بهم الأمد وهم يرقبون العهد الذي خرجوا لصنعه وبذلوا الكثير من التضحيات لتحقيقه، معتقدين أن خيار العمل العسكري المسلح في هذا الوقت صائب وإيجابي النتائج، احتذاء بالثوار الليبيون وما حققوه من تقدم على الأرض ضد نظام العقيد معمر القذافي، وإن لم يكتمل بعد المشهد الثوري الليبي في جانبيه السياسي والعسكري.
إن هذا التصعيد في هذه المرحلة أمر خطير جدا، وغير مجدٍ بكل المقاييس العسكرية، في ظل البدائل المتاحة والناجعة على مستوى العمل السياسي والثوري السلمي الذين يؤازرهما غليان الساحات، لأن هذا التصعيد يجري في ظل تجاهل تام وغير مدروس لفهم الفروق الكثيرة التي يتصف بها الموقفان اليمني والليبي، على جانبي الثوار أو النظام، سواء من حيث بنية وشكل وحجم الكتلة الثورية الفاعلة عسكريا، وكذا رصيدها الجغرافي والديموغرافي الحقيقي، أو من حيث الموقف المعلن من قبل قوى خارجية مؤثرة في تفاصيل ما يجري، أو في طبيعة العلاقة غير الواضحة بين أطياف القوى السياسية والعسكرية الثورية.
بقليل من التفصيل، يمكن القول: أن عملية الحسم الثوري المسلح يبدأ من منطلقات الثورة المكانية والمعنوية، بمعنى، أن التغيير يبدأ من الساحات، وهو امتثال لظاهر قول الله تعالى: " إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ " الرعد، من الآية 11، الأمر الذي سيعيد الثقة والحيوية للصف الثوري عموما، الذي اعتراه بعض التصدع، والذي يجب أولاً الاعتراف به، والسعي لتفادي تطوره، والعمل على رأبه، مع التركيز على شكل وجوهر العلاقة بين أطياف العمل الثوري في الساحات، بما في ذلك القوة العسكرية الحاكمة أو المؤيدة لها، أيا كان التوصيف المَرضي عنه لهذه القوة.
إن جوهر تكاملية العلاقة يجب أن ينصب في الالتفاف حول مقاصد الثورة والأدوات المتبعة وسبل ووسائل تحقيقها، وليس على النحو الذي تسير عليه الثورة اليوم، مالم فإنها ستمنى بنكبة مريرة يصبح الحديث بعدها عن حركة فاشلة أو انشقاق عسكري فاشل، وليس عن ثورة شبابية شعبية، ذلك أن الفصيل العسكري للثورة هو أقوى القوى المسيطرة على المسار الثوري، والأداة المحتكرِة والموجِّهة لأي نشاط ثوري، وستكون اللائمة عليها كبيرة، لا سيما وقد أهدرت الكثير من فرص الحسم في مراحل الثورة المختلفة، ويكفي للتدليل على ذلك، الإشارة إلى المحاولات الجريئة للثوار الشباب في تجاوز تلك الهيمنة، واستنهاض المشهد الثوري من رتابته وملله، بمحاولة الاقتراب من رئاسة الوزراء والسيطرة عليها في أوائل شهر مايو الماضي، رغم ما أعقب ذلك الإقدام من انتقادات من صفوف الثوار، عكست حجم الكبح الذي كان وما يزال يعانيه الشباب من رفقائهم في النضال.
في الأيام الأولى للثورة الشبابية، كانت خيارات الحسم على الطريقة المصرية -مع اختلاف في قليل- أقرب ما تكون إلى متناول أيدي الثوار، حينما كانت الثورة شبابية إلى حد ما، تآزرها دماؤهم الزكية التي لم تبرح الأرض تلمع بها وقتذاك، ولم يمرِّغ نقاءها سدنة المعبد المتهاوي للنظام، بأرجاسهم الواضحة، حينها كان التعاطف الشعبي في أقصى مراتبه، وأصبح النظام على مقربة من هاوية السقوط، مع تتالي الاستقالات المؤثرة في صفوفه، ووقوع جزء كبير من المجتمع في دائرة صدمة الحدث الذي ولّد حالة إشفاق وتعاطف مع شباب الساحات، لم يترك للشباب استثمار ذلك بالقدر الذي استثمره غيرهم.
إذن، كيف تبدو خيارات الحسم الثوري الذي يروج له هذه الأيام؟ وهل ما جرى في ليبيا مقياس ملائم يجب أن يُحذى حذوه؟ لقد تخللت الثورة اليمنية حالات مغايرة لنهجها السلمي، وأعنى بذلك، دخول فضائل معينة من الثوار خط المواجهات المسلحة، وإن جرى تبرير ذلك العمل، وهو ما جعل الثورة محل توجس محلي وإقليمي ودولي، خشية الانزلاق إلى أتون صراع دامي طويل الأمد، قد يلقي بظلاله على استقرار اليمن وعلى مصالح قوى إقليمية ودولية، الأمر الذي دفع بتلك القوى إلى واجهة الممانعة والاحتواء، وغدت بما تملكه من نفوذ في صفوف بعض الثوار وفي النظام-أيضا- أحد مثبطات الحسم الثوري المسلح أو المقيد له.
لقد برزت بعض بوادر وممهدات الحسم المسلح في وقائع الاقتتال التي جرت في منطقة الحصبة في العاصمة صنعاء، في أواخر شهر مايو- إلى أوائل شهر يونيو الماضيين، التي تبناها الجناح القَبلي للثورة، ممثلا بأبناء الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، في محاولة لكسر حاجز الخوف من طرفهم، وكعملية جس نبض متبادل، أراد كل طرف إجراءها على الطريقة التي ارتآها، وإن أحاط الغموض فهم من بدأ أولا.
أما الاقتتال العنيف في مناطق: زنجبار، وتعز، وأرحب، والجوف، والحيمة، بين الجناح القبلي للثوار ووحدات من الحرس الجمهوري والألوية الأخرى، فهي أعمال عسكرية داعمة لمفهوم الحسم، لوقوعها في محيط مركز الحسم وليس داخله، كما حدث في العاصمة، وإن كان يكتنف بعض تلك الأعمال الكثير من الغموض، فيما يتصل البعض الآخر منها بما يجري في الساحات، لكنها -جميعا- لم تخرج عن كونها استنطاق لمواطن وقدرات قوى تقليدية قبلية ودينية، وقد أراد النظام من ذلك الاستنطاق كشف تلك القدرات والتعامل معها بقوة مفرطة لتكون عبرة لغيرها، في ظل تعاون خارجي معلوم، وتكتم كامل في كثير من التفاصيل، وقد أثبتت تلك العمليات على نحو مقبول أن النظام مازال متماسكا، وبمقدوره احتواء أي خطر يتسلل من خارج أسوار العاصمة الثائرة عليه، بصرف النظر عن المبررات التي سيقت لتفسير وتبرير أسباب ذلك الثبات.
إن اتخاذ أي قرار في أي عملية عسكرية على أي مستوى، لابد أن يجري التحضير له وفق المستويات المطلوبة، الداخلية والخارجية، من خلال دراسة وتقدير مجموعة من المواقف الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، لكل طرف من أطراف الصراع، وهو أمر يراوح هذه الأيام بين رغبات الفوضويين وممارسي الحرب، ويشي بعدم الرضا عنه ظهور اللواء على محسن الأحمر في خطابه العِيدي الأخير على ذات الصفة التي ظهر بها في بداية انضمامه إلى قافلة الثوار، إذ كان الخطاب واحدا؛ انتهاج سلمية النضال الثوري، والتأكيد على استمراره، ولعله في هذا التوقيت ردٌ واضح لمن يخالفه هذا النهج والرأي، إدراكا منه بأن الموقف غير مشجع لاتخاذ قرار الحسم العسكري، وإن كان -كما يبدو- واردا كآخر خيارته المطروحة.
وحتى لا يجافي ما أوردناه الواقع، فإن ما يبرر مظاهر العنف التي رافقت الثورة الشبابية إنما هو من مظاهر الثورات الشعبية عموما، لأنها تهب كأعاصير عنيفة، تُقتلع معها العروش، وتطيح في طريقها الرؤوس، ويغدو الحديث عن الموت كجائزة يتسابق عليها الثوار، استبسالا وتضحية واستشهادا.
وفي ظل ما سبق، فإن معايير النصر تخبو حتى مع التفاوت الكبير في القوة، يعوضه في صفوف الثوار عدالة القضية ونبل الهدف والإصرار على تحقيقه، وكذا تغيرات المواقف الأخرى المرتبطة بما ينجز على الأرض في المراحل المختلفة لأعمال الحسم، غير أن الاستبسال والتضحية المشار إليهما لا يلغيان- في سبيل تحقيق الهدف- مبدأ المحافظة على قوة الثوار الذاتية المختلفة- خاصة الأرواح- والسعي لتحطيم القوة المعادية، وهذا الأخير بحسب ما يراه أحد رجال التغيير العالمي؛ الزعيم الصيني ماوتسي تونغ.
فالحرب إذن؛ قرار لخوض حالة فوضى تتسم بالقتل المنظم، وإهدار وتدمير الكثير من الطاقات، وحتى يكون المقاتل مقاتلا في هذه الحرب، فإنه إما أن يكون قاتلا أو مقتولا، لأن الحرب ليست نزهة ربيعية، ولا رحلة استجمامية، مثلما أنها ليست مطلبا ثوريا، وإنما أداة مُرة من أدواتها، يتقاسم مجرياتها لاعبون كثر، ذلك أن مجريات أي حرب لن تكون حكرا على القوات النظامية المسلحة أو المنشقة عنها، بل ستبرز من عدم مليشيات أخرى؛ كالمتطوعين، والعصابات، والمرتزقة، في صف إي من المتحاربين، وقد لُمس ذلك في مراحل مختلفة من عمر هذه الثورة.
وأخيرا، إن ما يجب أن يُفهم؛ أن الحرب عمل من أعمال السياسة، ومثلما أنها قرار سياسي فهي قرار اقتصادي واجتماعي، ولذا يجب ألا يجري اتخاذ هذا القرار على ذات الأنماط التي جرى اتخاذها في أغلب حروب العقود الثلاثة الماضية، حتى في ظل سيادة الجو الثوري، بل يجب أن ينصت الجميع لصوت العقل، حفاظا على نقاء الثورة ومسلكها السلمي، وإذا كانت الحرب أحلى البدائل المرة-وهي أحد وجهي الثورة المشروعة- فلتكن آخر خيارات الثوار.
* باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة