ربما تناوشني سهام النقد من قبل البعض، وربما تصطك أسنان أخرين غيضا مما أقوله في مقالتي هذه، وقد يستغرب البعض دون إبداء أي فعل مما سبق، لقناعتهم المسبقة باحترام حرية التعبير والقول الملتزم بحدود الحق الشخصي الذي لا ينبغي تجاوزه.
في حقيقة الأمر، أردت أن أنظر بعين مختلفة وغير مألوفة، لكنها قد تكون محقَّة، وذلك إلى ما يجري اليوم من حديث صاخب حول النتائج والتداعيات التي أفرزتها حرب المائة يوم التي دارت رحاها في بعض مدن محافظة أبين، بين القوات المسلحة الحكومية وأنصارها الداخليين والخارجيين، القريبين والبعيدين، ضد جماعات مسلحة من تنظيم القاعدة، كانت قد استولت على مدينة زنجبار ومناطق أخرى قريبة منها، قبل ثلاثة أشهر ونيف، وحديثي هنا لا يجيء على وجه الانتقاص من أحد، ولا التقليل من شأنه، ولكنه بنظرة فلسفية تنبذ الحرب وتتقزز من التفاخر بمجرياتها ونتائجها المحملة بالفوز لأحد الأطراف أو الهزيمة للطرف الآخر.
إن الحرب بين تنظيم القاعدة -المنتشر في بعض دول العالم العربي والإسلامي- والأنظمة الحاكمة في تلك الدول، ليست حربا تقليدية على عدو خارجي محتل أو مغتصب، كما أنها ليست حربا محدودة ومعلومة الوسائل والزمان والمكان والنتائج، ينتصر فيها طرف ويندحر ويخسر فيها طرف آخر، من خلال القتال الذي تتنوع وسائطه ووسائله، برا وبحر وجوا، بل هي حرب على ذواتنا، بأيدينا وبأيدي أعدائنا الحقيقيين، وهذه الحرب على تجاوز هذا المفهوم، قد أفضت في أغلب الأحوال إلى تشرذم وتفرق هذا التنظيم، الذي يتسلل بين حين وآخر إلى كيانات الدول أو إلى أراضيها، بحيث تغدو المواجهة مع هذه الدول، على نحو ما جرى في أفغانستان أوائل العقد الفائت. بل أنها -كذلك- مضمار طويل وعسير وغامض، لم تتضح بعد مكاسب المنتصر فيه ومشروعية ذلك النصر، وسيظل الأمر كذلك، لأن تلك الحرب تراوح بين الكر والفر، وبين الرضا والرفض، وبين الاستيلاء والتفريط في الأرض، وقد أثبت أسلوب القوة والعنف فشله وهو يواجه ذلك في مناطق كثيرة من العالم؛ كأفغانستان، والصومال، وإندونيسيا، والشيشان، وغيرها، فهل ما جرى في أبين يعتبر نصرا على هذا المقياس؟
أعتقد أنه من باب أولى، وقبل أن يتسابق المتسابقون إلى الحديث عن الانتصار على الجماعات الموصوفة بالإرهاب، وعن المكاسب المحققة، واستلاب تلك المكاسب والتنازع عليها، يجب أولاً إخضاع المفرطين في واجباتهم في المواقع والوحدات السياسية والإدارية والمنشئات الحكومية في محافظة أبين للمساءلة، وأن يجري عليهم حكم القضاء العادل جراء ذلك التفريط، لأنهم السبب الأول الذي جلب على الأمة هذه الخسائر الجسيمة في الأرواح والأموال والمعدات، أما أن يجري التمجيد والتهليل على استرداد ما ضيع نتيجة إهمال أو تقصير غير مبرر فذلك أشبه بمسرحية هزلية ندفع أجر مجريات فصولها المضحكة من بكائنا المكبوت. وفي مقابل ذلك التمجيد والتهليل، يجري -أيضا- قولبة الحدث على أوجه غير صائبة، تساهم في إذكاء الحرب واستدامة اضطرامها على الأرض كامتداد لاضطرامها على المنابر الدينية والسياسية والإعلامية، من خلال التشنيع الديني المًكايد لتلك الجماعات.
إن الخسارة أو الهزيمة التي لحقت بجماعات تنظيم القاعدة في أبين هي إخفاق مؤقت، وقد ألِف عليه التنظيم مرارا، فهو يفاجئنا كل مرة بانبعاثه من بين الرماد وحطام الدمار العنيف، في محاولات حثيثة ومتعددة، تسعى من وقت لآخر إلى إرساء كيانه السياسي الذي يؤمّله على الواقع، كوحدة سياسية لها وجودها الأممي، بالظفَر بالمكوَن الأول لهذا الوجود، وهي الأرض، أسوة بكيانات مناقضة لهم في الفكر، وهم الشيعة، الذين ينعمون بما لا ينعم به، ولذلك يبدو انكسار طموح تنظيم القاعدة هذه المرة -هنا في أبين- نحو تحقيق إمارة إسلامية سنية-على حد وصفهم- مريرا، لكنه سيكون -كالمعتاد- دافعا قويا لتحقيق هذه الغاية، لا سيما وأن ذلك يذكرهم بأيام العز التي عاشوها في كنف إمارة الطالبان في أفغانستان أواخر العقد الأخير من القرن الماضي، والتي كانت أعظم ما حققه هذا التنظيم على بساط المعمورة.
إن الحرب التقليدية ضد تنظيم القاعدة أو أي تنظيم عقدي ديني مشابه، لا يمكن أن تجدي نفعا، والتجارب بين أيدينا كثيرة، وقد كانت الحوارات الفكرية التي تبنتها الحكومة اليمنية مع العناصر المتشددة من هذا التنظيم على الطريق الصحيح، على اعتبار أن أمضى الأسلحة في مواجهة الفكر هو الفكر، وأن القوة المتمثلة بالحرب وآلتها المدمرة لا يمكن أن تواجه الفكر، بل تزيده تصلبا، والشواهد كثيرة على مدار التاريخ، لكن ما أفسد ذلك التوجه هو التسابق إلى كسب أفراد مؤثرين من التيارات والجماعات القاعدية، من قبل مراكز قوى متعددة ومعروفة في بنية النظام السياسي اليمني، وقد أغرى ذلك رجالَ التنظيم بإعمال المساومة والابتزاز لمصالح ذاتية أو لمصالح التنظيم ذاته، بعد أن لاقت الحظوة والتقدير من تلك المراكز، ثم تعدى الأمر إلى الشراكة في التدريب ومنحها الكثير من المزايا المادية والمعنوية، وبلغ الأمر الاعتماد على خبراتهم القتالية النادرة في بعض الصراعات المسلحة الداخلية التي عاشتها البلاد خلال العقدين الأخيرين.
في خضم الأزمة السياسية المتشحة بعباءة الثورة الشبابية، سقطت مناطق هامة من الناحية الاستراتيجية في محافظة أبين على نحو مماثل لما حدث في شمال الشمال، في كل من: صعدة، وعمران، والجوف، ولكن ما حدث في الشمال لم يُعمِل صداه المقلق في أُذُن الجوار المراقب والمتوجس مما يجري ما أحدثه فعل القاعديون في أبين، لاعتبارات معروفة وواضحة، وقد كان ما جرى في الشمال -كما يبدو- مغريا لأن يُحاكَى، وأياً كان المُدبِّر أو المقصّر في منطقة أبين، فإن المستفيد في المقام الأول هو تنظيم القاعدة، الذي ما فتئ أن وجد ضالته فالتقطها، معلنا وجوده الحقيقي على الأرض، على إيقاع انشغال الجميع في صنعاء على كرسي السلطة، الذي تهزه أصوات الشباب وبنادق العسكر ورجال القبائل، ثم ما لبث أن شرع المتنازعون في موقف التخلي، يكيلون التهم المتبادلة حول ما جرى ويجري في أبين.
ألم أقل لكم أنها ملهاة !! نتوهم النصر أو نحاول صناعته بثمن باهظ، نفرط في الأرض، طوعا أو تساهلا وتقصيرا في الواجب، ثم نُعد العدة لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح وتبديد الأموال، ونغري الطامعين بسمائنا وأرضنا ومائنا، فيهبون كمنقذين أخيار، يسرحون ويمرحون، ويتكشفون على عوراتنا المكشوفة أصلا، ثم يفضي الحرب إلى نصر "مُمَكْيَج " كما حدث هذه المرة، أو صلح أعوج؛ كما حدث في حروب صعدة الستة البلهاء.
يقال: إن الصلح خير، لكنه خسارة فادحة في سجل الأقوياء، إذن؛ فما قيمة الصلح الذي شرب دماء الجند وغيّب حفيف أرواحهم، والقول ذاته بالنسبة لخسائر الطرف الآخر، قاعدي أم حوثي الانتماء، فهم جميعا من أبناء هذا الوطن، وقد بُددت الأموال ودمرت الأسلحة والمعدات لإفناء بعضنا، هنا وهناك، في مراحل القتال تلك، مع أن أمر الوصول إلى السلام أو الصلح -مسبقا- كان ممكنا وغير مكلف، لو جرى إعمال العقل وإيثار المصلحة الوطنية الخالصة، وهذا هو حال ما كانت عليه حروب صعدة الستة، أما اليوم، فهنالك منتصر وهنالك خاسر أو منهزم- وكلهم من أبناء هذا الوطن المثخن بدماء الحرب- وسيجد كل فريق نفسه بين نوازع أسئلة مشروعة الطرح وذكية المقصد؛ يسأل المنتصر: هل انتصرت حقا؟ وعلى من؟ ولمن انتصرت؟ ويسأل المنهزم: هل انهزمت حقا؟ ومن هزمني؟ ولمن؟
إن كل طرف من طرفي الحرب التي دارت نحو مائة يوم، هم ضحية الهيمنة الغربية وأطماعها، ويقف في هذه القافلة وفي تلك الأطراف، المنتفعون من عَبَدة كراسي المُلك والرئاسة، ومعهم أرباب المال المدنس، من السماسرة وتجار الأنفس والسلاح، والهدف الحقيقي هو حماية المصالح الغربية ومصالح أصدقاء الغرب الخُلّص من أعراب المنطقة، الذين يتوجسون -معا- من توسع هذا السلاح البشري الذي أعدوه بأيديهم لأمر قضى نحبه في أفغانستان، ثم ارتد إلى صدور صانعيه، مهددا منابع النفط التي تمدهم بأسباب الحياة، وحارسهم الجاثم على وجه الأمه في فلسطين، ولذلك، لا بد أن نتحاور لا أن نتحارب، والحق في ذلك على الحاكم، ابتداء وانتهاء.
والآن؛ ألا يبدو قبيحا -ولو كان في الأمر مثالية غير مألوفة- أن يتجاذب المنتصرون- على سواقٍ من دماء يمنية زكية- بيرق هذا النصر الزائف؟!!
*باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة