أرشيف الرأي

كيف عبث الرئيس صالح بالمؤسسة العسكرية؟

عندما جاء المقدم علي عبدالله صالح إلى السلطة في السابع عشر من يوليو 1978م، كان بحكم أرومته المهنية مشبعا بثقافة الارتياب والحذر التي اتسمت بها المؤسسة العسكرية في اليمن في تلك المرحلة، وقد ألمَّ بأخطاء سلفيه الذين طالتهما أحابيل الأصدقاء الأعداء، فأردتهما قتيلين؛ هما: الرئيس إبراهيم محمد الحمدي، ومن بعده الرئيس أحمد حسين الغشمي، في العامين: 1977م و1978م على التوالي، وقد تأتَّى ذلك الحذر-كذلك- بحكم قربه منهما في سنوات توليهما السلطة،..

فأراد في سبيل ذلك تعزيز جانب الأمن الشخصي وأن السلطة، الذي يضمن- مع عوامل أخرى- الاستقرار السياسي، ومن ثم بقائه على رأس هرم السلطة أطول فترة ممكنة، وذلك وفق حساباته الخاصة وحسابات من حوله من رجاله الذين استفادوا من التجارب ذاتها، ومن المحاولات المتكررة لاغتياله منذ الأيام الأولى لتسلمه منصب رئيس الجمهورية، فتأكد له ولهم –أيضا- أن بقاءه في الكرسي الرئاسي مرهون بإنشاء منظومة حماية أمنية وعسكرية قوية توفر له الوقاية من الاغتيالات التي تلاحقه والتي حاقت بسلفيه من قبل.

لم يكن الرئيس صالح يوم أن تسلم الرئاسة وحيدا كما يظن البعض، بل كان محاطا بأقربائه وأصدقائه في بنية النظام، وتحديدا في أهم مفاصله؛ المؤسسة العسكرية والأمنية، وقد كانت السنوات الخمس التي سبقت توليه الرئاسة حافلة بتخرُّج وتأهُّل عدد كبير من الضباط من أبناء قريته وما جاورها في كل من: الكلية الحربية، وكلية الشرطة، الذين كانوا على استعداد تام للعمل معه في سبيل تمكينه من تأدية مهامه الرئاسية وإثبات قدرته على إدارة البلاد أمام المشككين من إمكان ذلك، والمترقبين لفشله أو لنبأ اغتياله، ولذلك فقد سعى إلى تمكين بعض أولئك الضباط من قيادة الكثير من الوحدات العسكرية والأمنية والمنشئات التدريبية والتعليمية، لكنه من العجيب أن يكون أولئك الذين التفوا حوله وقتذاك هم ذاتهم الذين يقفون اليوم في مواجهته ويسعون لإسقاطه، وهم يسوقون من المبررات ما هو مقنع للبعض وغير مقنع للبعض الآخر!!

كان محمد عبدالله صالح، هو الأخ الشقيق والأكبر للرئيس صالح، وقد التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها عام 1972م، ومثل بالنسبة له طوال فترة حياته أحد أهم الموثوق بهم في تدارس أمور الدولة وفي إسناده له مهام إدارة إحدى الوحدات الأمنية الحساسة في البلاد في وقت مبكر، فبحلول عام 1980م كان قد مُكن من تولي قيادة وحدات الأمن المركزي، بالتزامن مع توليه منصب وكيل وزارة الداخلية لقطاع الأمن الذي سبق أن عينه فيه عام 1978م، وأخذ دوره في التعاظم والقوة مع توسع انتشار هذه الوحدات في معظم مراكز المحافظات، لتغدو هذه الوحدة الأمنية وحتى اليوم أقوى الوحدات الأمنية والحاكمة والرادعة، بما يشبه اقتفاء أثر قوات الأمن المركزي المصري، في البناء والأدوار التي تؤديها في مواجهة أي أعمال شغب أو عنف أو تظاهر لا تروق للنظام، مع اختلاف بسيط بينهما في جانب عنصر القيادة، الذي يجري توصيفه -هنا- بناء على ترسيخ الفكرة الخلدونية القائمة على إدخال عنصر العصبية في الإدارة والقيادة والسيطرة على قطاعات الدولة الهامة، ولم يكتفِ الأمر بذلك فحسب، بل تولى قيادة هذه الوحدة خلفا له؛ ابنه الأكبر يحيى محمد عبدالله صالح، كامتداد لأبيه المتوفَّى، ولو كانت هذه القيادة من منصب أركان حرب.

لقد كانت الفكرة لدى الرئيس والمحيطين به من رجال عهده الجديد، تقوم على نظرات تقليدية منغلقة في إدارة الدولة، تنطلق من مفاهيم جامدة لا تواكب الوعي الشعبي المتنامي في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الدينية، فسيطرت معها فكرة الدولة البوليسية الأمنية على توجهات المتنورين ممن بقي من الليبراليين والليبراليين الحافظين الذين-على قلتهم- وجدوا أنفسهم مضطرين لترك البلاد أو الهرب إلى الجنوب، وغدا مبدأ "مزيدا من القوة يوفر مزيدا من الاستقرار السياسي" هو غاية ومقصد رجل الدولة الأول ومن معه؛ لأن ذلك كان يعني بالنسبة لهم جميعا، استقرار سلطته وامتداد عهده، وهو ما تحقق له، لكن هذا المبدأ رافقه شيوع القهر السياسي والاجتماعي، وتحقُّق الإذعان والخضوع القسري، الذي سرعان ما وجد مبرراته لدى القوى السياسية والتقليدية في ذلك الوقت مع تتالي المحاولات المتكررة لاغتيال الرئيس صالح، ومع توتر الموقف العسكري وتنامي النشاط الاستخباري الجنوبي في أجهزة الدولة في صنعاء، وتوغل فكر ونشاط الجبهة القومية الاشتراكية المدعومة من حكومة الجنوب، الأمر الذي جرى مواجهته باستحداث الأجهزة الأمنية والاستخبارية المختلفة، التي تنوعت وتعددت في أغلب عواصم المحافظات وفي مراكز المديريات التابعة لها.

بعد أن تغلب الرئيس على عبدالله صالح في حرب 1994م، على خصومه ممن صنعوا معه وحدة الثاني والعشرين من مايو 1990م، تجدد طموحه الرئاسي وبدا كأقوى ما يكون، وأدرك أن وحدات الجيش والقوى السياسية والتقليدية القبلية التي منحته النصر هذا اليوم وفي سالف أيامه، قد ترتد نحوه في قادمها لتسلبه الكرسي الذي جلس واطمئن عليه طولا، وقد تزايد ذلك القلق في الوقت الذي كانت تتزايد فيه شعبية القائمين على تلك الوحدات وحضورهم القوي في مفاصل الدولة، وفي مناطق تواجدهم في الشمال والجنوب والوسط، وكذا ارتباطهم الوثيق بالقوى السياسية والقبلية الفاعلة الصاعدة سياسيا واقتصاديا وفكريا، التي التحمت معا فيما بعد، لتشكل في طريق طموحه السياسي خطرا معلوم الحجم ومجهول التوقيت، يتوجب عليه أن يعد له عدة المواجهة والاحتواء، وها هو اليوم قد تحقق ما كان يخشاه ويحسب له، فغدا- رغم محاذيره التي توهم نفعها- شريدا طريدا!!

لقد أخذت نظرة القصر الرئاسي إلى الجيش يشوبها الكثير من الشك، لتوجسها من تبعية الولاء التي ضل طريقه إلى القصر، فجرت المقادير على أن يكون الحرس الجمهوري بديلا قويا، بقَرابة أقوى مما كان عليه منذ إنشاء النواة الأولى له أواخر الثمانينات، فتسلم أحمد علي عبدالله صالح القيادة الفعلية لهذا التشكيل عام 1997م، بدلا عن عمه علي صالح الأحمر الذي ألجأه حظه العاثر لمغادرة البلاد إلى أمريكا آنذاك، في ظروف استدعتها ضرورة استدامة الرئاسة أو المُلك على أحق توصيف، ثم انتشرت وحدات الحرس الجمهوري ومراكز تدريبها في أغلب محافظات الجمهورية، ليغدو الحرس الجمهوري الذراع الأخرى الأقوى التي تحمي بقبضتها الفولاذية الكرسي الرئاسي وطموح ورثته، جنبا إلى جنب مع وحدات القوات الخاصة الحديثة النشأة، التي تتبع الحرس الجمهوري وتخضع في نفس الوقت لقيادة أحمد على عبدالله صالح، بعد أن جرى تغذية هذا التشكيل بالعناصر الشابة المنتقاة أدق انتقاء، والمدربة أرفع تدريب، والمميزة عما سواها من وحدات القوات المسلحة بكل معاني التمييز، فضلا عن امتيازات التسليح الشرقي والغربي والدعم المنقطع النظير.

والحال ذاته بالنسبة للقوات الجوية وقوات الدفاع الجوي، التي يتربع على أعلى كرسي فيها منذ ما يقارب العقدين الأخ غير الشقيق للرئيس؛ وهو محمد صالح الأحمر، ثم جهاز الأمن القومي، الحديث النشأة، الذي يجمع بين مهام الأمن القومي وأمن السلطة، والذي يتولاه عمار محمد عبدالله صالح، أحد أبناء شقيق الرئيس صالح، وكذا الوحدات البرية النوعية الأخرى المستحدثة قريبا، والتي يجري الحديث عن إسناد مهمة قيادتها لأحد أبناء الرئيس المتخرج حديثا من إحدى الأكاديميات العسكرية البريطانية، وهو خالد على عبدالله صالح، فضلا عن الكثير من الوحدات العسكرية الأساسية والفرعية في الجيش والأمن التي يقودها صِبية أغرار من الدرجة الثانية والثالثة من البيت الرئاسي؛ فهل هذه الإشارات المقتضبة كافية لأن تفضح جليا توغل عصبية البيت الرئاسي في كيان الدولة اليمنية التي يقال عنها الجمهورية اليمنية، والتي تُجرُّ بخطى سريعة وبتعاطف البسطاء من أبنائها إلى نمط الملكية المستبدة، يحكمها الأحفاد بثوب مدلس اسمه النظام الجمهوري الديموقراطي؟

فما هو موقف أي عاقل من هذا المشهد الفوضوي في أهم كتلة مجتمعية يقوم عليها أقدس واجب، ألا وهو صون وحماية البلاد تحت أي ظرف ومن أي مصدر؟

في كل الدول التي تنشد الأمن والاستقرار والحياة الحرة، تُبنى الجيوش لحماية الأرض والإنسان والمعتقد والدستور، ويجري تحييدها عن أي صراع سياسي أو ديني أو عرقي، لأن تسخيرها التسخير المطلق بيد الحاكم بعد أن يكون قد أوكل زمام قيادتها لعصبية قومه، يجعل منها أداة قمع وإرهاب لمعارضيه من أبناء شعبه، وهو ما عبر عنه الرئيس صالح ذاته في أحد اللقاءات المتلفزة، فتخرج بذلك من حلتها الوطنية وموقفها الحيادي إلى دائرة الولاء الشخصي الضيق، مهما احتج الحكام بأن معظم الثورات والانقلابات والاضطرابات مصدرها الجيوش، وأن إيكال السيطرة عليها إلى الثقات من المقربين أمر محمود ومبرر، وهذا التبرير مردود عليه، لأن القوة ليست وحدها ضمان الاستقرار، إذ لا بد من تحقيق العدالة في أوساط الجماهير، بجوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وكذا احترام العقل، في عالم أضحى كقرية واحدة، لم يعد ينطلي عليه الخداع الدخل والتضليل؛ وإلا ما بال تلك الدول التي حققت نجاحات عظيمة في المجالات الإنسانية المختلفة، ويُتداول فيها السلطة سلميا، في منأى عن تدخل جيوشها، التي قد تجد نفسها مضطرة لذلك في أضيق الأحوال، خاصة عندما يبدي الحكام تعنتهم أمام مطالب شعوبهم؟!!

* باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة

زر الذهاب إلى الأعلى