في منتصف عام 2010م، كنت في أحد الملتقيات الثقافية التي تناقش-كعادتها- أسبوعيا موضوعا معينا يجري إعداد محاوره من قبل الهيئة المشرفة، وقد كان موضوع تلك الحلقة النقاشية يدور حول تعميق الانتماء الوطني في صفوف أبناء الوطن، وقد شرع أول المتحدثين بالحديث على طريقة: أفضل وسيلة للدفاع الهجوم؛ حين ألقى باللائمة على عموم الشعب، وبرأ طبقات المجتمع المتحكِّمة بمصائر الناس مما حل باليمن من حروب ونزاعات متتالية، ودعاوى انقسام وتمزق، وتحلل في القيم، وضمور للوطنية في النفوس، وعن حالات الغلاء وسوء المعيشة، وندرة الموارد، والانشغال عن البناء الحقيقي للإنسان بالمظاهر الحضارية الزائفة التي لا تناسب واقعنا ومستوانا المعيشي الراهن.
ومع أن تلك العبارات والكلمات هي نفس تلك التي تقال وتكرر في كل اجتماعات الكبار والصغار، في الوزارات والدوائر والمؤسسات الحكومية، بما يشبه الشكوى، فإن الحال يبدو ببساطة كماء النوافير الكريهة الرائحة التي تبتغي التجميل من حيث لا تدرك أنها تقتل هدوء المكان ونقاء هوائه. إلا أن الحديث قد نحا باتجاه تجميل الواقع والنظام السياسي وقد بدا من خلال حديث متكلم آخر، حين انبرى وهو يطرح فكرة لمعالجة بعض هذه القضايا، من خلال اقتراح النزول الميداني إلى مناطق محددة للالتقاء بأعيانها وسكانها ومثقفيها، ومن ثم التعريف بالواجبات الوطنية تجاه هذا الوطن في ظل هذه الظروف الصعبة، وعن أهمية التلاحم الوطني والالتفاف حول قيادة الدولة، بعيدا عن أي ولاءات أخرى؛ قبلية أو حزبية أو عقدية.
في الحقيقة أن الفكرة في بعض جوانبها كانت تحمل قيمة وطنية هامة، وقد تفاعلنا معها من حيث المبدأ، لكنها لم تكن ملائمة زمانا ومكانا وواقعا، وبخاصة في المناطق التي جرى اقتراحها، حيث كانت الأصوات في تلك الأيام تتع إلى في أغلب المحافل اليمنية منددة بسياسات الأجهزة الحكومية وتراجع أدوارها، وتفاقم الأوضاع المعيشية الصعبة؛ ممثلة بارتفاع الأسعار، وتردي الخدمات التي تضطلع بها مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة، بالتزامن مع تفاقم الأزمة السياسية بين حزب المؤتمر وحلفائه من جهة وبين أحزاب اللقاء المشترك من جهة أخرى، وتعاظم الصوت الحراكي في الجنوب والشرق، ومراوحة الأزمة في صعدة بين الهدوء والصخب.
لقد تبين لي ولسواي ممن ضمت القاعة، من خلال المداخلات التي طرحت، أن بعضا منها كانت على نحو موجّه، وأن المتكلمين فيها كانوا على ارتباط مباشر بأجهزة الدولة المختلفة، وأن هذا يأتي ضمن محاولات الترميم السياسي التي كانت تسعى إليه تلك الأجهزة، بعد أن أوكل الأمر إلى لجنة مدنية حديثة النشأة، كان مبتغاها السعي في هذا الاتجاه وكسب تأييد ودعم المؤسسات الثقافية والعلمية التي لها أثر بالغ في الجانب التنويري.
لا أخفيكم، أن الظلام أدركنا ذلك اليوم ونحن نناقش هذه القضية دون خروج بنتيجة، ذلك أن التيار الكهربائي كان في حالة انعدام تام منذ دخولنا القاعة عصرا حتى غروب شمس ذلك اليوم. وقد أَفحَم الجميع صوتٌ عقلاني كنا نعهده دائما ترتفع حججه المقبولة في حواراتنا المتعددة التي ما نلبث أن نقف منتبهين أمام الكثير منها، وكان من ضمن ما حمله ذلك الصوت: أن الوطنية لا تأتي بخطاب تلفزيوني جاف، أو بنزول ميداني عابر، أو بمنشور ورقي مزخرف الكلمات، أو نحو ذلك. إن أفضل من ذلك كله، هو توجيه جهد ما سينفق على مثل هذه الأعمال في إيجاد الخدمة الحقيقية الملموسة لسكان تلك المناطق.
ثم كانت تساؤلاته التي ختم بها مداخلته كأبلغ الأجوبة. تساءل: كيف ستصلون إلى تلك المناطق والطريق غير موجودة؟!! وكيف يُستحث السكان على الدفاع عن الوطن وأجسادهم عليلة؟!! وكيف نطالبهم بالتمسك بترابه وأراضيهم منهوبة؟!! أنى يرتجى وعي بهذه القضية وهم في أمية ساحقة؟!! إن علينا أولا: أن نمهد الطريق التي توصلنا إليهم، وأن نمدهم بالتيار الكهربائي الذي نستطيع من خلاله رؤيتهم وإسماعهم هذا الصوت، وأن علينا أن نقدم لهم المدرسة والمرفق الصحي، لأن تلك الواجبات لن تكون إلا بتوافر هذه الحقوق.
ومن هنا؛ وعودا على بدء، فهل كان ذلك الواقع هو كل ما ذهب إليه المتحدثون؟ لقد نُسّينا ونَسينا ونحن في غمرة ذلك الحديث، أننا نعيش حالة تخبط منذ عقود، وأننا نسمع شكوى الفساد من عناصر الفساد ذاتها، ونحاول معها-عبثا- الترقيع بعد أن اتسع الرقع على الراقع، وآثرنا أرباع الحلول وأنصافها على الحلول الشاملة، وغفلنا وتغافلنا عن القُدوة؛ ما يجب عليه أن يكون لنكون، نعم؛ القدوة أولا، فكيف يستقيم الظلُّ والعود أعوجُ؟!! إنه لمن العيب أن يتشدق الكبار بإيتاء الحقوق وهم سالبوها، وأن يرفعوا آهات الشكوى من الفساد وهم أسٌ في بنائه الذي شادوه، وقد أسندوا أمر أهم المراكز الحساسة في هذه البلاد إلى أسوأ العناصر خبرة والتزاما، بل غدا الاستشهاد بتلك العناصر السيئة وضرب الأمثلة بها محل استرشاد واقتداء، وهكذا جاءت النتائج حُولا ، ولا عجب.
*باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة