اعتاد اليمنيون على مقابلة تصريحات السلطة بانتظار العكس ، فإن قيل تخفيض الأسعار فانتظر زيادتها ، وإن قيل محاربة الفساد فأبشربحماية الفاسدين ، وإن قيل الأمن والإستقرار فانتظر الفوضى ، وهناك متضادات عديدة في علاقة اليمنيين بالسلطة الحاكمة ، ومنها مثلاً(لاللتخريب...نعم للنظام والقانون)
وتلك العبارة التي زاد ذكرها في الآونة الأخيرة تمثل الخلفية العملية لإجراءات مضادة تمارس داخل العديد من مؤسسات الدولة وعلى الخصوص مايتصل منها بالوظيفة العامة ونفقات المال العام ، ويمكن أن نلقي الضؤ على جانب من تلك المضادات والمتصلة بقانون الجامعات اليمنية وتعديلاته وذلك من خلال الملاحظات التالية :
أولاً/ يشير قانون الجامعات اليمنية في المواد(69-70) إلى الشروط الواجب توفرها فيمن يشغل الدراجات الأكاديمية ، ولم يُصغ القانون اعتباطاً ، بل لخصوصية الجامعات وأهميتها في تنمية المجتمع ، ولكون الجامعات تمثل عقل المجتمع وفيها النخبة من الكفاءات العلمية والفكرية ، ولأنها أيضاً تتولى صياغة مستقبل البلدان من خلال إعداد الكوادر المؤهلة ، ولكن للأسف نجد أن القائمين على جامعاتنا الحكومية لايدركون خصوصيات الجامعات كمنارات للعلم والمعرفة والتنمية ، بل قد نجد أن بعض القيادات الإكاديمية في الجامعات لاتفرق بين الجامعة وأي إدارة خدمية أخرى ، وبالتالي فقد ابتعدت غالبية التعيينات الأكاديمية في الفترة الماضية والحالية عن الأطر القانونية لتكبل بالوساطات والتوجيهات والترتيبات السياسية والأمنية ، حتى أصبحت البطالة المقنعة تكتسح غالبية الأقسام النظرية ، بينما يندر عدد أعضاء هيئة التدريس من اليمنيين في العديد من الأقسام العلمية ، ويرجع ذلك إلى كثرة الحاصلين على الشهادات الدراسية العليا من الأقسام النظرية سواء من الداخل أو الخارج ، ومن ثم زيادة معدلات الوساطات والتوجيهات لمثل هذه الحالات ، يصاحب ذلك غياب رؤية تخطيطية لتلبية إحتياجات الأقسام من أعضاء هيئة التدريس ، ومن ثم يتم توزيع الدرجات الأكاديمية المعتمدة مالياً حسب قوة ومستوى الوساطة والنفوذ وليس حسب احتياج الأقسام أو الكفاءة العلمية ، حتى وإن أستخدمت بعض المواد القانونية لإستكمال الجانب الشكلي لتلك التعيينات سنجدها تهدف إلى إكساب الشرعية لإصدار قرارات التعيين وليس إحتراماً للقانون ذاته ، أو المصلحة الأكاديمية للجامعة.
ثانياً/البنية التحتية: يشير قانون الجامعات اليمنية في عدد من المواد إلى الشروط الواجب توافرها في المبنى الجامعي والمعامل والتجهيزات المكتبية وغيرها وهي شروط ضرورية لإطلاق صفة جامعة على تلك المرافق ، كما تعد تلك المتطلبات ركناً أسياسياً لإنجاح العملية التعليمية بشروطها الموضوعية ، ولكن الأمر في الجامعات اليمنية يختلف فعلى الرغم من مليارات الريالات وملايين الدولارات المعتمدة للبحث العلمي والبنية التحتية ومدخلات العملية التعليمية ،إلاَّ أن الحقيقة غير ذلك ، فإن ذهبت إلى كلية الطب مثلاً بمواردها العالية من النظام الموازي ستجد أكثر من خمسة طلاب يتقاسمون منظار وقطرة محلول لاختبار عينات الدم مثلاً، ستجدهم يشاهدون متطلبات التعليم الطبي مثل بعض المجسمات وعينات الأجسام البشرية عن بعد ، وإن سئلت عن سبب تلك الشحة سيقال لك العدد كبير ولاتوجد موازنة لنعطي لكل طالب (منظار أو قطر محلول أو مجسم لجزء من جسم الإنسان) ، وإذا قادك فضولك للسؤال في السوق عن سعر تلك التجهيزات ستجدها تساوي جزء يسير من رسوم طالب موازي ، وبالتالي سنرى في النهاية طالب كلية الطب يتخرج بمستوى متدني ، ومن ثم تظهر الأخطاء الطبية الجسيمة في مستشفياتنا ، فهل نحمل الطالب أم إدارة الجامعة التي بخلت بأبسط التجهيزات الضرورية لدراسة الطب مع وجود الإمكانيات المالية لشراء تلك التجهيزات ، ومن يراجع تقارير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة سيجد نفاقات هائلة يتم صرفها في بدلات سفرأو وجبات غذائية أونفقات أخرى عديدة لو أختصرت ووجه جزء منها لصالح التجهيزات المعملية لغطت إحتياجات العملية التعليمية ، ويمكن عكس ذلك المثال على مختلف الأقسام وخاصة العلمية في كليات الهندسة والعلوم والتربية والزراعة والتي تفتقد معاملها إلى الحد الأدنى من التجهيزات المعملية ، لذلك قد نجد خريج كيمياء أو فيزياء معين جديد لايستطيع إجراء تجربة معملية في مدارس التعليم العام ، إن المسئولية لذلك القصور لايقع على الطالب بصورة أساسية بقدر ما تتحمله المؤسسة التعليمية التي لم تضع في أولوياتها توفير الحد الأدنى من المواد المعملية لطلاب الأقسام العلمية ، والحال كذلك حتى في بعض الأقسام الأدبية مثل الجغرافيا واللغة الإنجليزية وغيرها التي تحتاج إلى مرسم خرائط أو معمل صوتيات ، أما على مستوى مختلف الأقسام بصورة عامة فتغيب التجهيزات الصوتية وأجهزة العرض والوسائل الإيضاحية عن القاعات الدراسية ، بل حتى قد لانجد الإحتياجات التقليدية البسيطة مثل لوح كتابة نظيف أو مساحة وأقلام !!!يضاف إلى ذلك إزدحام الطلاب في بعض التخصصات لتصل أعدادهم أحياناً إلى مئات الطلاب للمجموعة الدراسية الواحدة .
إن قانون الجامعات اليمنية يحمل في ثناياه العديد من المواد القانونية التي تهدف إلى تطوير العملية التعليمية حماية للجامعات من هيمنة قوى النفوذ بمختلف توجهاتها ، ولكن من ما يؤسف له أن مختلف تلك المواد القانونية يتم تجاهلها بشكل متعمد خضوعاً لرغابات بعض القوى المتنفذة سواء الأمنية أو الاجتماعية أو الإدارية ، وتصبح الكفاءات الوطنية الشابة المستقلة عاجزة عن الوصول إلى المؤسسات الأكاديمية إذا كانت لاتملك إحدى أدوات تلك القوى.
إننا نثير هذا الموضوع رغبة منا في تصحيح مسار التعليم العالي إعتماداً على التخطيط العلمي التنموي ، وابتعاداً عن التدخلات القادمة من خارج الجامعات ، كون الإستمرارفي إنتهاك قانون الجامعات اليمنية بصورة فجّة سيؤدي إلى تأثيرات سلبية على المسار التنموي للجمهورية اليمنية لعقود قادمة .
أخيراً نأمل من حكومة الوفاق الوطني وكل الوطنيين الأحرار في هذا البلد إعادة النظر في الطريقة التي تدار بها مؤسسات التعليم العالي ، بحيث تدار وفق رؤى وطنية تنموية ترى في التعليم الأساس لبناء مستقبل اليمن ، أما دون ذلك فإن مستقبلاً مظلماً ينتظر مؤسساتنا التعليمية وذلك سيؤدي حتماً إلى تشوهات وتخريب لمستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في اليمن ، نرجوه تع إلى أن يولي علينا الأخيار ويصرف عن وطننا الأشرار إنه على ما يشاء قدير.