أكثر ما في الساحة المصرية هي كلمة «لا». عشرات اللاءات المحلية تتردد كل يوم.. لا للمحاكمات العسكرية، ولا للفلول، ولا للمجلس العسكري، ولا لانتخابات رئاسية قبل وضع الدستور، ولا للجنة الدستور، ولا للجنة الانتخابات، ولا لتعطيل الانتخابات الرئاسية .
وللخارج أيضا لاءاته؛ مثل لا للاقتراض من البنك الدولي، ولا للمساعدة الأميركية، ولا للغاز لإسرائيل، ولا لمنع منظمات المجتمع المدني.. وغيرها. والجديد «لا للسعودية»، لأن مصريا اعتقل في مطار جدة اسمه أحمد الجيزاوي وبحوزته أدوية مخدرة.
بالطبع، بإمكان المواطن المصري أن يفرض ما يريده من لاءات على حكومته، لكنه لا يستطيع أن يفرض رأيه خارج حدود بلاده. بإمكانه أن يغلق سفارته في الرياض، بإمكانه أن يمنع مواطنيه المصريين من السفر إلى السعودية، بإمكانه أن يمنع السعوديين من دخول مصر، وبإمكانه أن يقطع علاقات بلاده مع السعودية، كل هذه يستطيع إملاء لاءاته فيها، لكنه لا يستطيع أن يمنع دولة في الخارج أن تعتقل مصريا بتهمة وفق نظام البلد الذي هو على أرضه، ولا يستطيع منع معاقبته إن حكم عليه.
والذين يدعون لقطع العلاقات مع أكبر دولة متشابكة المصالح معها، وهي السعودية، أو سحب العمالة منها، يريدون فرض مطالبهم على حساب غيرهم من المصريين الذين لم يسألهم أحد عن رأيهم.
وإذا شاء المصريون قول «لا» لكل هذه المصالح، فهذا شأنهم وحقهم، لكن يبقى السؤال الآن: من هو المخول بقول «نعم» و«لا» عن الشعب المصري.. المتظاهرون، أم البرلمانيون، أم الرئيس المنتظر؟ القرار المصري السيادي يفترض أن يصدر عن الدولة المصرية لا من برامج الحوارات التلفزيونية أو المظاهرات.
العالم ينتظر منذ نحو عام قرار المصريين حيال مشروع دولتهم. قبل عام وعدت قطر بمنح المصريين عشرة مليارات لكن بعد انتخاب الرئيس، الإمارات أيضا. البنك الدولي رفض تقديم العون في انتظار الولادة السياسية. والنظام المصري لا يزال في حال تشكل، حيث أنجز نصفه تقريبا، فقد تم انتخاب مجلسي البرلمان، الشعب والشورى، وبقي إقرار الدستور وانتخاب الرئيس، ولاحقا الحكومة. عندها يمكن للمصريين أن يتخذوا قراراتهم المصيرية تجاه الخارج، أما الآن فنحن أمام مخاض تنافسي، وكل طرف يريد إحراج الطرف الآخر والتكسب الشعبي والعاطفي، ومعظم ما يقال له «لا»، لا منطق له.
فالذين يقولون مثلا لا للاقتراض من البنك الدولي لتأمين الوضع المالي المتأزم في مصر، ربما لا يدرون أن دولا مثل إسبانيا ورومانيا واليونان وغيرها كلها تقف الآن في الطابور أمام صندوق النقد والبنك الدوليين، هذه حاجات لا تمس الكرامة بشيء. وكذلك الذين يريدون إلغاء أخذ المعونات الخارجية، كالتي تقدمها الولايات المتحدة، يتجاهلون أنها جزء من علاقات معقدة ومصالح متبادلة، ومعظم دول المنطقة تتمنى الحصول على معونة أميركية سنوية مثل التي تمنح لمصر، وقدرها نحو مليار ونصف المليار دولار، والتي تفوق المعونات لكل الدول العربية الممنوحة مجتمعة.
أما معركة الجيزاوي المتهم المصري في السعودية، فلو كان صحيحا أن هناك موقفا ضده لكانت رفضت منحه تأشيرة أصلا، وبالتالي منعه من دخول بلادها. ثانيا، الجيزاوي شخص نكرة للكثيرين، وتحديدا للسعوديين، مقارنة بعشرات مشاهير المصريين الناقدين أو الموالين. وثالثا، السعودية هي أكبر بلد للمصريين، فيها أكبر جالية مصرية في العالم خارج بلادها. والمثير أن ترتيبها الثانية في السعودية بين الجاليات التي تعيش بسلام، بأقل قضايا أو مشاكل. ورابعا، نظام العمل، الذي يشتكي منه البعض، مطبق على كل الجاليات والجنسيات وليس استثناء يستهدف المصريين.
على السعوديين، وبقية المنزعجين من ما يصدر من هناك، أن يدركوا أن مصر اليوم سفينة في بحر هائج بلا قبطان، وعليهم انتظار نتائج الماراثون المصري الطويل.
أنا واثق أن الأمور ستسير في طريقها الطبيعي، ولن تتبدل العلاقات الخارجية كثيرا، سواء جاء للحكم مدني، أو عسكري متقاعد، أو إخواني، أو ناصري. العلاقة ظلت صافية لنحو ثلاثة أرباع القرن، وأصلحت في أحلك الظروف. سقطت الملكية المصرية في عام 1952 واستمرت العلاقة مع النظام الجديد. غضب الرئيس الراحل السادات لأن السعودية رفضت مساندته في اتفاقه مع إسرائيل عام 79، ثم أعاد هو نفسه العلاقة، كما فعل قبله الرئيس الراحل عبد الناصر.
الحقيقة أن قدر مصر الجديدة، بغض النظر عن القوى التي ستدير سياستها غدا، مربوط بالسعودية مع تعاظم الظروف. مصر، بلد في داخله ثالث ناتج إجمالي في المنطقة، بعد السعودية والإمارات، أي أن اقتصاد مصر أكبر من قطر والكويت والعراق وليبيا مجتمعين بمفهوم القوة الاقتصادية. ولا يمكن للمصريين تفعيل هذه القوة من دون علاقة مع الدول الكبيرة اقتصاديا في المنطقة مثل السعودية.
والذين يرمون الطوب على سفارة السعودية في القاهرة، هم في الواقع يرمونه على المصريين في السعودية القلقين أصلا من فوضى الشارع المصري وصراعات القوى السياسية المختلفة على الحكم. وقد يصدم البعض إذا علم أن كثيرا من المليون ونصف المليون مصري في السعودية امتنع عن تحويل مدخراته لبلاده منذ العام الماضي، خوفا من تبعات الفوضى على ما جمعوه بعرق جبينهم، يخشون انخفاض قيمة الجنيه أو إفلاس المصارف أو فلتان الوضع السياسي والأمني.
واجب الذين قاموا بالثورة أن يحافظوا على مكاسب بلادهم، لا أن يخلطوا بينها وبين مكاسب النظام البائد.