صادفت عبد الحفيظ النزيلي بإب..
كم تمر السنين ولا ندري، وكأنني لم أدرك تقدمي في السن إلا حين انعكست ملامحي على ملامح عبد الحفيظ، كان يسأل مدرس الرياضيات عقب كل معادلة رياضية (ليش؟) لا أحد يدري بالطبع ليش المعادلة؟ ولا لماذا اغتيل ذو يزن بصعدة، ولا أين ذهب خالد الأنس الذي بقي يضحك ذات ليلة مذاكرة من المغرب حتى الفجر، بقي فمه يؤلمه لأسبوع بعد تلك الضحكة الأطول في تاريخ الغرفة وفي تاريخ الضحك العالمي..
تحدث الأشياء هكذا، يتفرق الطلبة وتتجمع ذكرياتهم في أدراج الطاولات الخلفية للفصل.
كنا نشاغب ونسرق أقلام بعضنا ولا ندري شيئاً عما سيؤول إليه أمرنا.
أتجول مؤخراً بين ساحة خليج الحرية وبوابة مدرسة النهضة ولا أدري ما الذي أفعله بتلك الذكريات غير سردها على هذا النحو المتقطع باحثاً في ذات الوقت عن مربع مناسب لوضع تلك الذكريات في معادلة اليوم السياسية والحديث عن موقع جيلنا في هذه المعادلة التي لا مكان لنا فيها إلى جوار عناصر الماضي وكأنهم مواد كيميائية لا تتحلل وغير قابلة للإزاحة.
نشبه هذه الأيام طلبة في المعمل يحدقون بينما تتفاعل المواد تلقائياً وتعيد إنتاج حامض الكبريتيك المركز كل مرة ولأسباب تخص المعمل ولا علاقة لها بالطلبة.
أشعر وأن نخبة البلد الآن تركيب ل(H2SO4) اتحاد مركز لعناصر الهيدروجين والكبريت، وعمرنا الغض تحول إلى مجرد ذكرى و(فرجة). نتفرج ونتذكر ونحاول من خلال خليج الحرية تصحيح المعادلة التاريخية ذات العناصر المعروفة.
غير أننا نخفق في كل مرة ونتبادل الشجن بين بوابة النهضة وشارع العدين ولقد أصبح جيلي كله مجرد محاولة حزينة وكأنهم أبطال مسرحية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف).
إب مغوية وجاذبة لممارسة الكسل الذي يعقب خيبة الأحلام الكبيرة. لا تعود في إب قادراً على التسامح أثناء بحثك اليومي عن مقيل مكتظ بما يكفي للرثاء...
أدور في إب وذهني مربوط إلى مدرسة النهضة وكأنني أبحث في أيام المدرسة عن تفسير لما يحدث الآن.
لم نكن أيامها بمعزل عن الاستقطابات والتسيس كان الأستاذ عبد الحكيم العفيري يتجول بامتلاء تدور حوله الشائعات عن مواقفه اليسارية الصارمة وكان يبدو متكبراً لأمثالنا غير أنه في النهاية كان مثل دعوة متجولة للتسيس والانحياز وتمثل مواقف..
عبد المجيد الوجيه كان يدرس الإنجليزية ويتهكم من الاسلاميين وأنا من أيامها متورط في الدفاع عنهم كما هو الحال الآن..ذلك أن الأستاذ عبد المجيد لم يكن يعرف ما أعرفه أنا عن مدى نزاهة من أحبهم من الإسلاميين ابتدءاً بأحمد الصنعاني في الدنوة وانتهاءً بأحمد القميري في صنعاء.
ذات صباح أيام حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل وكعادتهم في خوض معارك ساذجة مع الفن والليبراليين، قام الشيخ سمير المصري ليحذر الطلبة من الغزو الفكري والمؤامرة العالمية ضد الإسلام ممثلة بفوز محفوظ بجائزة نوبل. أطرقت يومها وأنا واقف في الطابور كأي فتى أخجلته تصرفات عمه. قام مدرس الرياضيات المصري بقطع سيلك الميكرفون وبقيت ألاحظ حركات لحية الشيخ سمير تهتز بعنف لا يسمعه غير الشيخ سمير. لم أكن أيامها أحب محفوظ غير أنني كنت مثل الفتى الذي يهرب من بيتهم كل يوم ليتغدى عند الجيران. طعام اليساريين لذيذ وأبوابهم مخلعة.
كان الشيخ سمير يومها قد منح العفيري والوجيه بمبادرته الشخصية سبباً إضافياً للتهكم من الحركة الإسلامية، ومن يومها وهذا التيار يدفع ثمناً باهظاً مقابل كل حماقة لِلِحْيَةٍ محسوبة عليه. أما أن تكون من إب هذه الأيام. يعني أنك خسرت حتى شكواك التاريخية من سرقة أصحاب مطلع لثورتك مستحضراً علي عبد المغني.
كنا في بوفية في الظهار. أحمد طارش وعماد زيد والفتى إسماعيل القبلاني وفؤاد الوجيه الذي يبدع قصصاً قصيرة بأصابع بالغة الطول. نتحدث، لا ندري من سرق هذه الثورة ولا من هو غريمنا هذه المرة.
عندما اغتالوا الشاعر الأسباني لوركا برصاصة من الخلف لم يلتفت...
ذلك أن لوركا شعر لحظتها أن الفاعل هو أسبانيا.