ربما يعتقد المواطن المصري البسيط أنه وبمجيء الدكتور/ محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة ، ستحتل كل مشكلاته المتراكمة على مدى ثلاثة عقود أو تزيد ، وأنها ستختفي في ظرف أسابيع أو شهور ، وبعدها سينعم بالرخاء والاستقرار والعيش الكريم ، الذي كان محروماً منه طوال العهود السابقة ، والحقيقة أن هذا التفاؤل كان يمكن أن يكون صائباً في حال اختفى المجلس العسكري نهائياً من المشهد السياسي المصري ،
ووفّى بكل وعوده التي كان قد قطعها على نفسه منذ الإعلان الدستوري الأول بتاريخ 13 فبراير 2011م ، "أي بعد سقوط مبارك بيومين فقط" والذي أعلن فيه التزامه بعدم الاستمرار في الحكم وتعهَّد بتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة في غضون ستة أشهر أو في موعد أقصاه الانتهاء من الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لكن المجلس العسكري ظل يماطل طوال عام ونصف بحجة الانفلات الأمني وعدم الاستقرار في البلد “الذي كان هو نفسه سبباً رئيسياً فيه “ ولم يكن يتجاوب مع مطالب الثوار إلاَ بعد أن يكونوا قد خرجوا بمليونية أومليونيتين إلى ميدان التحرير وقد سقط العديد منهم شهداء.
يبدوا لي أن المجلس العسكري - وخلال كل تلك الفترة- كان يبحث له عن "تخريجة" ما ، لإجهاض الثورة وتكريه الناس بها من جهة ، ولمواجهة الإخوان والحيلولة دون وصولهم إلى السلطة من جهة أخرى، لأنه كان يعلم جيداً أن أي مسار ديمقراطي لن يصب إلاً في مصلحة الإخوان حتماً ، ولكنه كان يضطرً للنزول عند رغبة الناس عند الضغط الشديد ، وهنا سأتوقف قليلاً عند أول ضغط تعرض له المجلس العسكري من قبل الأحزاب والقوى الثورية وبمقدمتها الإخوان ، وهي اعتراضهم الشديد - على مرسوم للمجلس العسكري في الـ27 من سبتمبر 2011م ، قضى بالإبقاء على المادة الخامسة من قانون انتخابات مجلس الشعب لسنة 72م ،الذي كان معمولاً به في عهد مبارك، والتي تنص على أنه: "يُشترط فيمن يتقدم بطلب الترشح لعضوية مجلس الشعب أو مجلس الشورى بنظام الانتخاب الفردى، ألا يكون منتمياً لأى حزب سياسى ، فإذا فقد هذه الصفة أُسقطت عنه العضوية بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس" ، الأمر الذي جعل المجلس العسكري يدعوا بتاريخ 18 أكتوبر كافة تلك القوى إلى اجتماع بمقر المجلس العسكري وافق فيه على إلغاء تلك المادة نزولاً عند رغبة الأحزاب والقوى الثورية على ما يبدوا في ظاهر الأمر، لكنه كان يخفي في باطن الأمر – وهذا ما أرجحه شخصياً - أنه كان قد وجد في تلك المادة "التخريجة" التي كان يبحث عنها "فأسرَّها في نفسه ولم يُبدها لهم" ، ليُصدر بعد ذلك بشأنها مرسوماً آخر يتيح للأحزاب الترشح على المقاعد الفردية ، وهي الثغرة القانونية التي استغلها المجلس العسكري بعد ذلك قُبيل الانتخابات الرئاسية بيوم واحد فقط، وجعل منها مسوغاً قانونياً له حلَّ بموجبه مجلس الشعب، ومع أن الإجراء ذاته كان قانوني ، إلاّ أنني أجزم بأن دوافعه وتوقيته كانت كلها سياسية وبدون أدنى شك.
لقد أقدم المجلس العسكري على إعلان حزمة من الإجراءات قُبيل انتخابات الرئاسة ، كخطوة استباقية تهدف بالأساس إلى نزع الصلاحيات المخولة للرئيس القادم بحسب نص الإعلان الدستوري ، حتى إذا ما جاء إلى القصر الرئاسي وجد نفسه مقيداً وعاجزاً عن فعل أي شيء ، وبالتالي يظهر أمام الشعب على أنه رئيس عاجز، وأن الشعب قد أخطأ باختياره له ، ومن تلك الاجراءات على سبيل المثال وليس الحصر قانون العزل السياسي الذي مكن شفيق من الاستمرار في المنافسة على الرئاسة ، مروراً بقراره حل مجلس الشعب ، وصولاً إلى الإعلان الدستوري المكمل الذي نصَّ على أن يحلف الرئيس الجديد اليمين الدستورية امام المحكمة الدستورية العليا بدلاً من مجلس الشعب ، ثم إعلانه منح نفسه صلاحيات إنشاء تأسيسية الدستور التي احتدم الجدل حولها قُبيل الانتخابات الرئاسية بين كافة القوى المصرية ، كما منح نفسه حق التشريع نيابة عن المجلس التشريعي الذي أصدر قراراً بحله ، وانتهاءً – وليس نهاية- بإصداره الاثنين الماضي مرسوماً بقانون يقضي بتشكيل مجلس الدفاع الوطني الذي يرأسه الرئيس الجديد، ويضم في عضويته 16 عضواً منهم 11 عضواً من المجلس العسكري ، والذي تنص المادة الثانية منه بأنه لا يصح انعقاد اجتماعات هذا المجلس إلاّ بحضور الأغلبية المطلقة من أعضائه، ولا تُتَّخذ قراراته إلاّ بموافقة الأغلبية المطلقة من أعضائه كذلك، وهذا معناه أن الرئيس الجديد سيكون بلا حول ولا قوة داخل هذا المجلس.
إن كل تلك الاجراءات الآنفة الذكر تشكل –برأيي- استفزازاً قوياً لمشاعر الشعب المصري بأهدافها وبتوقيت صدورها ، كما تشكل تحدياً سافراً لإرادته في التغيير ، وتهديداً حقيقياً لثورته بل وتعد انقلاباً على نهجه الديمقراطي ، الذي اختاره للانتقال بالسلطة من حكم العسكر إلى الدولة المدنية الحديثة التي ينشدها وفق اختياراته الحرة عبر صناديق الاقتراع ، وكلها إجراءات لا تعني – من وجهة نظري- سوى شيء واحد هو أن العسكر لا يريدون تسليم السلطة إلى الشعب عبر الطرق السلمية ووفقاً للخيار الديمقراطي، وإنما بات واضحاً أنهم سيحتاجون إلى ثورة شعبية عارمة تنتزع تلك السلطة انتزاعاً ، وهو ما يجعل الأوضاع في مصر مرشحة لمزيد من الاضطرابات في المرحلة المقبلة.
إن فوز الدكتور/ محمد مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية يعني – من وجهة نظري ووفقاً لهذا السياق الآنف الذكر- إيذاناً ببدء مرحلة جديدة عنوانها "صراع الثورة مع العسكر" واجهتها جماعة الإخوان المسلمين ، والتي على ما يبدوا قد قُدِّر لها أن تكون في الواجهة ، وهو صراع لا أراه منتهياً على المدى المنظور أكان القصير أو حتى المتوسط ، فالمجلس العسكري قد أبى إلاّ أن يتصرف بنفس العقلية السابقة للعسكر، والتي لا ترى ولا تفهم بالأساس إلاّ لغة واحدة هي لغة القوة، ولا وجود للحوار في قاموسه العسكري ، وهي قد اعتادت على لغة التخاطب "الفوقية" وعلى الأوامر العسكرية التي لا تقبل النقاش مطلقاً ، وكل إجراءاتها الأخيرة تقول بذلك ، وأرى أن أول نقطة سيبدأ عندها هذا الصراع هي "حَلف اليمين الدستورية"، والتي من المرجح لديَّ أن يرفض الرئيس الجديد أدائها أمام المحكمة الدستورية العليا ، وسيصر على حقه في أدائها أمام مجلس الشعب المنتخب ، أو أمام مجلس الشورى كحل مقبول نسبياً، وعند هذه النقطة سيبدأ الصراع السياسي بالاحتدام بين الإخوان والمجلس العسكري ، والتي أعتقد بأن الإخوان سيحاولون فيها قدر الإمكان عدم الوصول إلى مرحلة التصادم "العنيف" مع العسكر، لكنهم بذات الوقت لن يسمحوا بكل تأكيد بأن يبقى الرئيس الجديد بلا صلاحيات كاملة أو مجرد "رئيس فُرجة" كما يريد له المجلس العسكري أن يكون.