تتعاطى الأطراف الموقعة على اتفاق التسوية في اليمن بنوع من التهميش وعدم الجدية مع مشروع قانون العدالة الانتقالية، فالمشترك وأحزابه لم يرتقي موقفهم إلى مستوى الغضب الذي يصدر عنهم كلما تعلق الأمر بمسائل التمثيل والمحاصصة..
وأما الطرف الآخر فتهميشه للعدالة الانتقالية يأخذ صيغة الرفض المطلق والاستماتة في التصدي لمشروع القانون إلى حد التلويح بالانسحاب من الحكومة، وفوق المتوافقين تبرز برودة موقف الرئيس الانتقالي الذي يمتلك صلاحية إصدار القانون حتى لو لم تقره الحكومة والبرلمان المزمن ..
ربما يفسر ذلك بأن العدالة الانتقالية تمثل جوهر التغيير وتتعلق بالمجتمع وما عاناه شبابه الثائر خلال سنة الثورة السلمية، وما قبلها في سنوات الأقبية المظلمة والاغتيالات والملاحقات والتنكيل.. بينما النخب السياسية كلها لا تعير الموضوع اهتمام جوهري لانها تطبعت على ممارسة السياسة كعملية مساومات بعيدة عن قضايا المجتمع وحقوق أفراده في الحياة أولاً وما يتعلق بها من حقوق لكي تعيش بحرية وكرامة ..
الإقرار بالتغيير كقاعدة لاتفاق التسوية استلزم البدء بتنفيذ برنامجين للانتقال من وضع قديم ومنتهي إلى وضع جديد ومأمول. الانتقال الأول يتعلق بنقل السلطة سلمياً وعبر عملية محددة الخطوات بدأت بتشكيل الحكومة واختيار الرئيس الانتقالي، وتنتهي بإعداد الدستور الجديد والاستفتاء عليه واجراء انتخابات عامة لاختيار الادارة الجديدة للدولة بكافة سلطاتها، الرئاسية والتشريعية والمحلية وغيرها
والانتقال الثاني يتعلق بالمجتمع وبرنامج انتقاله من وضع قديم إلى وضع جديد يسمى برنامج العدالة الانتقالية ويهدف إلى انتقال المجتمع بعد تخففه من السجل الأسود للنظام القديم ويهدف إلى جبر الضرر وإدانة الأفعال التي مورست ضد أفراد المجتمع من قبل السلطة الاستبدادية البوليسية والتنكيل والقتل والحبس الذي تعرض له المعارضون للنظام.
وكل الإجراءات والقرارات وما قطع من خطوات حتى الآن من قبل الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق يتعلق بنقل السلطة بينما لم يتم الانتهاء بعد من إقرار برنامج العدالة الانتقالية من حيث المبدأ أولا بإقرار مشروع القانون، الذي ووجه بالرفض مع أنه لم يستوفي شروط الحد الأدنى من محددات العدالة الانتقالية التي طبقها جزئيا النظام الملكي المغربي ولا نقول النظام الجديد في جنوب أفريقيا برئاسة نيلسون مانديلا.
من يقرأ مشروع القانون ويقارنه بالخطوط العامة المرجعية للعدالة الانتقالية التي تتضمنها أدبيات المرجعيات الدولية والمراكز والوثائق والقوانين الخاصة بهذا الإطار الإنساني يشعر بالخجل من الحذر الذي أبداه معدو القانون اللذين أفرطوا في التوافق في حقل لا مجال فيه الا لكشف الحقيقة وإدانة الأفعال الاجرامية والانتهاكات التي طالت حقوق الانسان التي تكفلها كافة الشرائع والتشريعات والمواثيق العالمية.
حتى أن المشرع التوافقي نص على التزام السرية في التحقيقات وسماع شهادات الشهود ان ارادوا ذلك، مع أن الغرض الاساسي من هيئة المصالحة والإنصاف التي نص عليها مشروع القانون والمتعارف عليه في كل التجارب السابقة هو ضرورة العلنية في اعترافات الفاعلين وشهادات الشهود وسرديات الضحايا امام المجتمع حتى يدان الفعل ويجرم ويدمر في الوعي العام حتى لا يتم تكراره مستقبلاً وليس من أجل الانتقام أو التشهير.
ومن دون تحقيق اهداف الثورة وشهدائها أولا سيكون الحديث عن التسامح والمصالحة نوع من الرضوخ والاستسلام للقتلة والإقرار بأحقيتهم في القتل والبلطجة..
لقد تمت المصالحة والعدالة الانتقالية عقب سقوط النظام العنصري التمييزي في جنوب أفريقيا وتمت المسامحة والعفو بعد انزياح العنصريين القتلة عن سدة الحكم ورضوخهم للعدالة التاريخية واعترافهم بجرائمهم..
اما في اليمن فلا زال عرقاً ما يحاول النبض في جثة التوريث، ولعله عرق الطائفية العنصرية الذي يفسر العناق الذي رأيناه قبيحاً ومستفزاً بين " داعية الحقوق المدنية، والكذبة الكبرى في تاريخ اليمن !!" محمد المتوكل، ورأس النظام السابق الذي أدى تشبثه في الحكم إلى قتل ثلاثة آلاف يمني اغلبهم من الشباب وجرح ما يقرب من عشرين الف..
وقطعاً لن يكتب للتطلعات التوريثية الطائفية أي نجاح، ليس فقط لأن ثورة قامت في اليمن، بل الأهم ان زمن التأبيد والتوريث والطائفية قد انتهى ولم يعد قادرا على البقاء ونحن نشهد نهايته الدرامية من القاهرة إلى طرابلس إلى دمشق وتضحيات السوريين الاحرار.