[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

بين دستورين (!)

أزمة الدستور المشتعلة الآن في مصر تتشابه في أوجه وتختلف في أوجه أخرى مع أزمة الدستور التي عرفتها بلادنا في بداية زمن الوحدة 1990. وفي الحالتين تمايزت مواقف طرفي القبول والرفض تجاه مضامين الدستورين، وكيفية التعاطي معه!

في اليمن بدأ الإعداد لمشروع الدستور باتفاق رئيسي الشطرين (علي عبد الله صالح وعبد الفتاح إسماعيل) –أثناء اجتماعهما في الكويت في أعقاب الحرب الحدودية (1979)- على تشكيل لجنة لإعداد دستور الوحدة خلال ستة أشهر تمهيدا لتوحيد اليمنين. وأعدت اللجنة المشروع وقدمته لقيادة الشطرين لكنه (نام) في الأدراج حتى كان اتفاق نوفمبر 1989 في عدن؛ لكن الاتفاق لم يلتزم بما جاء في المشروع من إحالته إلى مجلسي الشورى والشعب لمناقشته وإقراره ثم عرضه على استفتاء شعبي. وقضى اتفاق نفق (جولدمور) بين العليين: صالح والبيض على إقرار المشروع دون مناقشته وتأجيل الاستفتاء عليه إلى ما بعد قيام الوحدة، واكتفوا بجلسة واحدة في كل من صنعاء وعدن تم فيها إعلان موافقة السلطتين التشريعيتين على مشروع الدستور.

مشروع الدستور لاقى يومها انتقادات قوية خاصة من التيار الإسلامي، وهو أمر طبيعي؛ فإذا كان الناس يختلفون على ما هو أقل أهمية بكثير من الدستور فكيف لا يحدث خلاف بشأنه؟ وبعد قيام الوحدة فشلت كل المحاولات لإقناع مجلس الرئاسة لإجراء تعديلات على المواد المختلف بشأنها؛أو جعله دستورا مؤقتا حتى الانتخابات النيابية ثم تغييره أو تعديله في البرلمان المنتخب، وأصر الحكام يومها على الاستفتاء عليه بالصورة التي وضع عليها بداية الثمانينيات. ومع اشتداد المعارضة الشعبية لمشروع الدستور تخوف الحكام من احتمال رفض الشعب له، وخاصة بعد أن تحققت الوحدة، ولم يعد هناك خوف شعبي عليها في حالة رفض الدستور.. ويومها اتخذ مجلس الرئاسة قرارا لم يعرف مثيله في التاريخ جعل بموجبه الاستفتاء على الدستور مجرد عملية استئناس ولا تؤثر نتيجة التصويت عليه إن جاءت سلبية بأي حال من الأحوال. وفي مواجهة ذلك قرر المعارضون، بقيادة الإصلاح، مقاطعة الاستفتاء طالما صار عملية لا فائدة منها!

(2) ولادة الدستور المصري..

وفي الحالة المصرية؛ ثار خلاف بين قوى الثورة المصرية بعد سقوط مبارك حول ترتيبات الفترة الانتقالية ومنها طريقة إعداد الدستور الجديد؛ فاليساريون والعلمانيون والليبراليون رأوا أن يتم ذلك عبر (لجنة) يشكلها المجلس العسكري الحاكم بعد مبارك على أن يتم بعد الاستفتاء على الدستور إجراء استكمال بناء مؤسسات الدولة الدستورية.. أما الإسلاميون فقد رأوا أن الأسلم دستوريا هو إجراء الانتخابات التشريعية يقوم بعدها مجلسا الشعب والشورى بانتخاب جمعية خاصة لإعداد الدستور ثم يستفتى عليه شعبيا.

كان مبرر القوى الإسلامية أن تشكيل لجنة إعداد الدستور بالانتخاب من مؤسسات تشريعية منتخبة شعبيا يمنحها قوة وحصانة ويجعلها أكثر تمثيلا للشعب.. لكن الطرف الآخر كان متيقنا -من خلال معرفته بالمجتمع المصري وما يعتمل فيه خلال أربعين عاما مضت– أن أي انتخابات تجري في مصر سوف تنتج أغلبية للقوى الإسلامية تجعلها صاحبة الكلمة الفصل. وحسم استفتاء شعبي (مارس 2012) الخلاف بين الموقفين، وأجريت انتخابات تشريعية فاز بالأغلبية فيها الإسلاميون، وانتخبت جمعية لإعداد الدستور اعترض عليها في المرة الاولى فحلت ونشب خلاف شديد عطل تشكيلها الثاني، لكنبعدتهديدالمجلسالعسكريبأنهسيقوم بتشكيل لجنة إن لم تتفق القوى السياسية؛ تبنى حزبا الوفد وغد الثورة مبادرةلإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور،واتفقت القوى السياسية على ذلك، وبدأت الجمعية عملها وفق الخطط التي رسمتها. وقرب الانتهاء من مشروع الدستور انسحب مجموعة من الأعضاء من بين من يصفون أنفسهم بالقوى المدنية بدعاوىمتعددة تبدأ من اعتراضهم على طريقة إدارة النقاش، ومروا بأن هناك ملاحظات حول صياغة ومضامين بعض المواد، وانتهاء بزعم سيطرة التيار الإسلامي على الجمعية وفرض رؤيته ( قضى الاتفاق بتشكيل الجمعية مناصفة بين المختلفين وعدم منح أي أغلبية، وعلى أن يتم التصويت على مواد بالتوافق أولا ثم التصويت بالثلتين ثم بنسبة 57% إن لم يحدث توافق.. وكان التوافق هو سيد الموقف وخاصة في المواد ذات الحساسية الدينية).

وازدادت حدة الخلافات وخاصة مع حملات التشهير الإعلامية وتسريب أخبار غير صحيحة عن إقرار مواد معيبة ومثيرة للخلاف، وظهور احتمالات قوية بقيام المحكمة الدستورية العليا (من مخلفات عهد مبارك) بحل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية كما حدث مع مجلس الشعب الذي تعرض للحل بحجة بطلان قانون انتخابه؛ مع أن الدعوى الأصلية كانت تختصم فقط السماح للحزبيين بالترشح على المقاعد الفردية (كان ممثلو حزب الوفد هم الذين أصروا على ذلك أثناء إعداد قانون الانتخابات)، لكن الدستورية العليا أبطلت القانون كله، وفي أسرع وقت لدعوى من نوعها.. وفي الجلسة الأولى ودون حضور أصحاب الدعوى الأصلية الذين لم يكن لديهم علم بالموعد(!!)، وتصاعدت الخلافات حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.

(3) بين معارضتين..

من المفيد تاريخيا وسياسيا أن نعقد مقارنة سريعة بين مواقف المعارضتين اليمنية والمصرية تجاه مشروع الدستور في بلد كل منهما.. ففي الحالة اليمنية، ورغم الحالة اللا دستورية التي ظهر فيها الدستور من بدايته –أعدته لجنة رسمية محدودة العدد- حتى إقراره بالطريقة المضحكة المذكورة سابقا؛ إلا أن المعارضة اليمنية للدستور اتخذت أسلوبا سلميا في معارضتها وإن كان الأمر لم يخل من بعض المواقف الكلامية الحادة، وعندما أصر احكام على تجريد الاستفتاء من جديته قررت المعارضة مقاطعته، واكتفت بتسيير مسيرة غير مسبوقة في تاريخ صنعاء لإعلان موقفها الرافض للدستور ومطالبها بتعديله قبل الاستفتاء عليه.. وتركت للسلطة تمرير خططها وفرض آرائها المخالفة للأصول الدستورية خشية تحول الخلاف السياسي إلى مواجهات دامية كان يمكن أن تحدث بين أبناء الوطن الواحد، على أن يعمل المعارضون على تعديل الدستور وتقويم ما يحتاج إلى تقويم وفق الأصول الدستورية المعروفة الموجودة في الدستور نفسه.. وهو ما حدث بعدها وبموافقة شبه جماعية من القوى السياسية. وأذكر كلمة للأستاذ/ أحمد طروش الأمين العام المساعد للتنظيم الناصري(رحمه الله) أثناء حوار أجريته معه عام1993 قال فيه: إننا موقف الإصلاح تجاه الدستور وطريقة تعامله مع تطورات الموقف.

ذلك ما حدث في اليمن.. أما ما يحدث في مصر فهو صورة مقلوبة.. ففي أرض الكنانة تصر المعارضة على تفجير الموقف بسبب اعتراضات على دستور شاركت هي في إعداد معظم مواده؛ بل وفرضت منذ البداية صيغة تشكيل لجنته على الأغلبية.. وعندما قررت معارضته سلكت مسلكا غير سلمي، وهدد زعماؤها وأربدوا، وزجوا بمصر في مرحلة حرجة، وصلت فيها المواجهات الدامية حدا لم تعرفه البلاد حتى في أحداث ثورة 25يناير.. والحق أنه لولا أن القوى الإسلامية متنبهة لمخطط جر البلاد إلى حرب أهلية ( ليس بالضرورة أن الأحزاب المعارضة وراءها لكنها تستغل لتمرير مخطط فلول نظام مبارك بدعم إقليمي مفضوح) لكانت النار قد اكلت الأخضر أو ما تبقى منه!

معارضة الدستور أي دستور ليس جريمة ولا حتى عيبا.. الخطأ الأخلاقي ينتج عندما يبتكر المعارضون حججا هزيلة واكاذيب لتبرير رفضهم، ومع ذلك يظل مفهوما لكن الأسوأ أنهم يستخدمون ذلك لتبرير استخدام أساليب غير سلمية لفرض إرادتهم على الآخرين الذين من حقهم أيضا أن يرفضوا رفض الدستور.. وفي هذه الحالة لا يكون أمام الجميع إلا اللجوء إلى الشعب ليختار أحد الموقفين، لكن هذا الحل السلمي رفض رغم كل الضجيج عن وقوف الشعب(!!) مع المعارضة.

(4) غرائب مصرية..

في الخطاب السياسي والإعلامي للرافضين للدستور المصري تبرز غرائب مواقف النخبة العلمانية واليسارية التي تؤكد صحة رأي الشاعر المتنبئ ( و(كم ذا بمصر من المضحكات... ولكنه ضحك كالبكا) لكنها بصورة أو أخرى تكشف الأسباب الحقيقية وراء معارضتها. ومن أغرب هذه الغرائب أن هذه الأحزاب كانت الأكثر فرحا بقرار حل مجلس الشعب الأول من نوعه في نزاهة انتخابه منذ 60 سنة.. ليس هياما بسلامة الإجراءات ولكن لأنه ألغى الأغلبية الإسلامية.. هل رأيتم قبل هذا نواب يفرحون لحل مجلس هم أعضاء فيه.. بل ويقاومون كل محاولة لإعادة الشرعية إليه، ويعدونها تعديا على هيبة القضاء؟

ومن هذه الغرائب الاعتراض على وجود بعض الأشخاص ضمن حصة القوى المدنية ( اسم الدلع للقوى العلمانية) في الجمعية التأسيسية بحجة أنهم إسلاميون، واستدلوا على ذلك بنائب رئيس حزب غد الثورة د. محي الدين لأنه متدين بدليل سجدة الصلاة ( أو زبيبة الصلاة كما يقول المصريون) الظاهرة على جبهة رأسه!

الحجة الأكثر استخداما في تبرير رفض الدستور هو القول بأن الدستور لا تضعه الأغلبية، ولا بد من وجود توافق وطني حوله.. ومن سوء حظنا في اليمن أن هذه الحجة لم تكن معروفة يوم الاختلاف على الدستور عام1990-1991، وربما لو عدنا لإرشيف الصحافة المصرية في تلك الفترة لوجدنا أصحاب فرضية التوافق كانوا من اكثر المؤيدين للدستور اليمني وضرورة التصويت بنعم عليه!

وتناسل من هذه الحجة تحذير تخويفي من أن اعتماد مبدأ الأغلبية في إعداد الدستور سيؤدي إلى أن كل من يملك الأغلبية مستقبلا سوف يعمل على تعديل الدستور وفق رأيه! وهل في ذلك جريمة إن كان يعبر عن رأي الأغلبية.. ولماذا اصلا توضع في الدستور موادا تحكم طريقة تعديله؟ ثم هل يمكن أن تكون هناك أغلبية لحزب ما في كل مرة تجرى فيها انتخابات؟ ها هو حزب العدالة والتنمية في تركيا رغم الأغلبية التي يحكم بها تركيا إلا أنه يعجز عن إجراء تعديلات جذرية على الدستور!

(5) للذكرى..

قبيل اندلاع الحرب الأهلية الأسبانية (1936-1939) شهدت إسبانيا حالة من الفوضى العارمة بين مؤيدي الجمهورية ومؤيدي الملكية، وفي خلال أسابيع وقعت 269 حادثة اغتيال سياسي، و1287 حادثة استخدام السلاح، و150 حادثة إحراق كنائس، و69حادثة هجوم مسلح على مقرات أحزاب سياسية، 113 حادثة إضراب، و10 حوادث اقتحام صحف حزبية وأهلية. وفي أجواء تلك الفوضى وقف (روبيلس) رئيس الحزب الكاثوليكي الإسباني متحدثا في البرلمان فقال:

[دعونا لا نخدع أنفسنا.. إن بلد يستطيع أن يعيش في ظل نظام ملكي أو جمهوري، في ظل نظام برلماني أو رئاسي، في ظل نظام شيوعي أو فاشستي؛ لكن أي بلد لا يستطيع أن يعيش تحت الفوضى..].

زر الذهاب إلى الأعلى