آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

الزمرة الحاكمة ومخاطر تنازع الولاء بين عبدربه وعلي ناصر

أثبتت الفترة الطويلة التي قضاها علي عبد الله صالح في حكم اليمن أن اليمنيين لا يهتمون بمن يحكم ولكن بكيف يحكم.. 33 عاما واليمنيون لم يسألوا حتى عن لقب رئيسهم ولا عمن هم عصبة حكمه وأركان نظامه. حتى أن كثيرين في الداخل والخارج كانوا يظنون أن اللواء علي محسن هو أخوه غير الشقيق، وحتى بعد أن اتضحت لهم الحقيقة اعتقد الكثيرون -ولايزال بعضهم يعتقد- ان انضمام علي محسن للثورة تم بتنسيق مع صالح إنقاذا للنظام من الغرق التام المشابه لما حصل في تونس ومصر وليبيا، مستشهدين على ذلك بقبول اللواء محسن للمبادرة الخليجية.. ومجموع هذه القراءات الخاطئة كانت تقود إلى توقعات خاطئة وتفسيرات خاطئة لأهداف ودوافع منظومة النظام السابق.

والحقيقة أن عدم اهتمام اليمنيين بالمعرفة التامة والأكيدة لشخص الحاكم ومن حوله من أركان حكمه هي عادة حميدة تثبت حضارية هذا الشعب. واليوم يتكرر نفس الشيء مع الرئيس الجديد عبدربه منصور هادي حيث لم يسال أحد نفسه عن خلفيات هذا الرئيس ومكوناته الثقافية والنفسية والاجتماعية التي تلقي بظلالها على قراراته سلبا وإيجابا. كما لم يشغل أحد نفسه بمعرفة بيئته الحاكمة وأركان نظامه الذين يؤثرون، ولا ريب، على قرارات الرئيس، ويشكلون معه الهوية السياسية للنظام وتوجهاته ومخاوفه وقدراته.

يصلح الاكتفاء بنظرية تقييم الحاكم ب"كيف يحكم"، عندما يكون البناء العام للدولة والنظام، مؤسسيا، وعندما تكون هناك برامج معلنة مسبقا صعد على إثرها الحاكم إلى سدة الحكم؛ لكن حينما يكون النظام الجديد مصطبغا بذات الصبغة العصبوية لسلفه، وحينما تكون توجهاته ودوافعه على قدر من الغموض، وحينما يكون صعوده إلى سدة الحكم ناجما عن ثورة وأزمة وتوافق، وليس عن برنامج سياسي معلن... كل ذلك يجعل من البحث في ماهية رأس النظام وأركان حكمه أمرا ضروريا لتحليل سياساته وتسديد خطاه.. وهو ما نحاول الاقتراب منه في هذه التناولة بناء على بحث في هذه الماهية منذ أن أفصحت المؤشرات الأولى في المبادرة الخليجية أن الأمور في اليمن ستؤول إلى النائب عبد ربه منصور هادي.. ثم جاءت سلسلة التعيينات التي أجراها الرجل بعد انتخابه في 21 فبراير 2012 لتثبت الصبغة العصبوية للنظام الجديد الذي ركز بيديه مؤسسات الرئاسة والجيش والاستخبارات والقضاء وكثيرا من المفاصل الحساسة للدولة. وبموجب قرارت الهيكلة الأخيرة في تاريخ 10 ابريل الجاري، تغير تماما شكل معادلة مراكز القوى التي تكوّن على أساسها النظام السابق، وأصبحنا أمام ترتيب جديد تماما لمعادلة مراكز القوى التي تشكل النظام الجديد سلطة ومعارضة.

ويوما عن يوم تضعف فاعلية وخطورة وقبضة مركزي القوى الرئيسيين في النظام السابق جناح الرئيس السابق علي عبدالله صالح وجناح اللواء علي محسن وهذا لا يلغي أنهما سيظلان مركزي قوى مؤثريْن وفاعليْن لسنوات قادمة؛ ولكن الأرجح إلى الصواب أنهما الآن مركزا قوى آحذان في التضاؤل وليس في الصعود.. وأياً كان حجمهما كبيرا أو صغيرا فإنهما بطبيعة الحال، محدودا الحركة، وموضوعان تحت الملاحظة الداخلية والخارجية، ولكن الخطورة الآن هي في مراكز القوى غير المرئية حتى الآن وخصوصا تلك المتماهية مع النسيج السياسي الذي جاء منه الرئيس عبد ربه منصور إذ يبدو أنه بفعل العوامل النفسية والكلفة الكبيرة لثورة التغيير على أطراف النظام السابق فإن طبيعة القوى المتحفزة الآن هي تلك التي أخذت قسطا كبيرا من الراحة والتخطيط وتجديد الحماس وأعطتها التغيرات الكبيرة والهائلة التي أحدثتها الثورة الشبابية والمبادرة الخليجية في تغيير معادلة الحكم التي كانت متماسكة في صنعاء، دفعة معنوية هائلة وفتحت شهيتها على مصراعيها.. هذه القوى غير المرئية تتمثل في تقديري، في قوتين إحداهما معارض للرئيس هادي ولجماعته السياسية (التي تسمى "الزمرة") وهي جماعة "الطغمة" التي يجمعها مع الزمرة صراع دموي منذ العام 1986 توطد في العام 1994. وهذه الطغمة بإمكانها أن تتقبل أياً كان حاكما لليمن الموحد إلا أن يكون من الزمرة، واستكثرت على هؤلاء الذين كانوا بعد 86 في حالة موت سريري أن يكونوا هم الآن ورثة نظام علي عبدالله صالح بقضه وقضيضه وحجمه واتساعه. ويبدو أن إشراك الزمرة لخصومهم الطغمة في الحكم لا يغذي نهم الأخيرين ولا يصنع في قلوبهم رضا تجاه الزمرة، فضلا عن استحالة هذه الشراكة بمفهوم التقاسم لأن من الصعب إقصاء كل المكونات الأخرى من بقايا النظام السابق والقوى والأحزاب التي أيدت الثورة وأسهمت في وصول الزمرة إلى سدة الحكم.. بالتالي وجد التحالف الزمروي الحاكم نفسه، إزاء معضلة "غيظ الطغمة"، أنه بحاجة إلى إيجاد صيغة جديدة تبعد خطر الطغمة عن المركز وترمي بهذا الخطر إلى الأطراف، وذلك عن طريق صيغة فدرالية تضمن شكلياً بقاء الوحدة وترضي عمليا نهم الرؤوس المتعددة الطامحة للزعامة، وذلك عبر مؤتمر حوار.. وتلاقت هذه السياسة مع رغبات دول كبرى كبريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا وإيران (ومعظمها باستثناء إيران دول راعية لمؤتمر الحوار) في إيجاد أقاليم موالية لها لتصبح العاصمة مثلها مثل أي من هذه الاقاليم وليس لها الهيمنة المركزية التي لم تستطع هذه الدول في السابق اختراقها جراء الاستحواذ الأمريكي السعودي على المركز، والأخيران حسب اطلاعي، هما الأقل تحمساً للفدرالية ويسعى كلٌّ منهما حاليا إلى ابقاء نفوذه بطريقة ما.. إذ يسعى الأمريكان إلى الإمساك بزناد الجيش في حين يسعى السعوديون إلى الإمساك بأمعاء الاقتصاد بحيث يظل نفوذ كل منهما مضمونا حتى في وضعية الأقاليم.

ووفقا لما سبق لا يعدو مؤتمر الحوار عن كونه احتفالية الغرض منها شرعنة هذا الحل وفقا لحسابات الزمرة ومخاوفها وليس وفقا لما تحتاجه البلاد.

هذا فيما يتعلق بمركز القوى الخفي الأول المهدد لنظام الرئيس هادي، فماذا عن مركز القوى الثاني الذي يعد أشد خفاء من سابقه، ذلك أنه من داخل الزمرة نفسها وهو تيار الرئيس الأسبق علي ناصر محمد الذي كان الرئيس عبد ربه منصور هادي يُعتبر واحدا من شخوصه.. والإشكال هنا أن ولاء جزء من هذا التيار هو لعلي ناصر وليس لعبدربه.. والأول لايزال يستكثر على الأخير مقعد الرئاسة كما تستكثره عليه الطغمة ومكونات النظام السابق، ولكن تيار علي ناصر أجرأ من نظرائه الآخرين وأقدر على إلحاق الضرر بالرئيس هادي لأن شخوصه هم طواقم الرئيس وأركان حكمه، وفي مقدمة هؤلاء محمد ناصر أحمد الحسني وزير الدفاع وابن عم الرئيس الأسبق علي ناصر محمد الحسني. والملاحظ اليوم أن هذا التيار أمسك بيده مقاليد القوة والسيطرة وصار يعزل الرئيس كليا عن المجتمع الذي يحكمه ويوقعه في سلسلة خسارات متوالية بالتزامن مع استخدامه للرئيس في إضعاف مراكز القوى الأخرى بحيث يعود علي ناصر من جديد، هو الممسك الحقيقي بزمام الأمور سواء بشخصه مباشرة أو عن طريق الرئيس هادي كمنفذ لسياسة ناصر بلا حول ولا قوة، أو عن طريق محمد ناصر أحمد.. ونرى الآن مجموعة من التسريبات والترتيبات تهيئ لعودة علي ناصر وتفرش له (في خيالاتها) القصور الرئاسية، وتنقيه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنَس.

قد يقول قائل إن خارطة الصراع الجنوبي هي ذات طابع مناطقي يتكتل فيه أبناء المنطقة ضد منطقة أخرى ولا يتآمرون على أنفسهم.. وأقول إن هذا صحيح ولكن أثناء طور الوصول إلى السلطة ولكن بعد الوصول يبدأ التآمر الداخلي.. وعدا عن كون هذا السيناريو سنة بشرية، فإن ثمة سوابق تؤيده لنفس الأشخاص ونفس الجماعة؛ حيث يتحدث مؤرخو الصراع في الجنوب أن علي ناصر محمد كان من أبرز من تآمروا لإقصاء الرئيس "الأبيني" سالم ربيع علي (سالمين) وتصفيته بشكل مفزع في 26 يونيو 1978. وقد أخبرني بعض السياسيين أن آخر كلمة قالها سالمين قبل أن تخترق رصاصات الرفاق جسده: "با يشلها الأفعى" مشيرا إلى علي ناصر محمد.. وبالفعل أصبح علي ناصر رئيسا لمجلس الرئاسة من 26 يونيو، 1978 حتى 27 ديسمبر، 1978. ثم رئيسا للجمهورية في أبريل 1980 بعد أن نجح في إزاحة عبدالفتاح إسماعيل جامعا في يده لأول مرة في تاريخ دولة اليمن الجنوبي، السلطات الكبرى الثلاث: رئيس هيئة الرئاسة، رئيس الوزراء، وأمين عام الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم. ولم يكتف علي ناصر بذلك بل سعى للتخلص من بقية شركائه في الحكم عبر مخطط تصفوي مهول في 13 يناير 1986 الذي تخلص فيه من قائد الجيش وثلاثة آخرين ضمن خطة متزامنة يتخلص فيها أتباعه في كافة المعسكرات من شركائهم في الدولة، وقد كاد علي ناصر ينجح لولا أن الأمور لم تمض وفق ما خطط له، إذ استطاع الطرف المغدور به أن يسيطر على عدن بعد عشرة أيام من المجازر الدامية راح ضحيتها من الطرفين أكثر من عشرة آلاف يمني، أربعة آلاف منهم هم كوادر ذات مؤهلات عليا ما بين طبيب ومهندس وضابط وطيار.. لينزح علي ناصر ومن معه إلى شمال الوطن وقد أصدرت ضده الجامعة العربية قرارا بالادانة والملاحقة وبدا أمام العالم أجمع أجرأ مستبد وأكبر سفاح.

في العام 1990 غادر علي ناصر صنعاء إلى خارج اليمن تنفيذا لشرط أمين عام الحزب الاشتراكي علي سالم البيض الذي ربط توقيع اتفاقية الوحدة والانتقال إلى صنعاء بضرورة مغادرة علي ناصر منها. وعقب استعادة الوحدة اليمنية 22 مايو 1990 حرم العديد من قيادات الزمرة العسكرية والمدنية من كعكة الشراكة الوطنية الجديدة في الحكومة والجيش، فاشتغل بعض من هؤلاء وعلى رأسهم علي ناصر في توسيع هوة الخلاف بين رئيس مجلس الرئاسة علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض، وكان لهم دور في دفع الأمور إلى هوة المواجهة بين شريكي الوحدة وكان طبيعيا أن يقفوا إلى جانب صف الرئيس علي عبدالله صالح ليتموقعوا، بعد الحرب، في مواقع الشراكة بدلا عن الطغمة، وكانوا حريصين على الإمساك بحقيبة الدفاع تارة والأركان تارة أخرى، ضمن حصتهم منذ 94 وحتى الآن.. وخلال هذه الفترة أسهموا في القيام بعملية إقصاء ممنهج للقادة والضباط التابعين للطغمة، ربما لكي يأمنوا شرهم مستقبلا.. وحين أراد صالح أن يسري قانون التقاعد على قادة وعسكريين من الزمرة أسوة بالطغمة وأسوة بعسكريين كثيرين من غير منطقة الحكم، أسس النائب عبدربه منصور هادي في العام 2000 ما سمي بملتقى أبناء الجنوب.. وأتذكر أن الزميل خالد الحمادي كان أول من نشر خبر الملتقى في جريدة "القدس العربي" اللندنية. مجموع هذه التسريحات كان هو المكون الفعلي لما صار يعرف بعد ذلك ب"الحراك"، وكان الطغمة يعرفون أن غريمهم الأول في كل ما طالهم، هم الزمرة، وصالح في المرتبة الثانية، لهذا حين أفضت الثورة إلى رئيس من الزمرة ازدادت حدة الحراك في المناطق المحسوبة على تيار الطغمة، وانداحت معالجات تحالف الزمرة الحاكم بموجب المبادرة الخليجية، على النحو الذي ذكرناه آنفا.

اليوم وبعد كل هذا التاريخ يأتي علي ناصر محمد الذي تسبب بجزء لا يتجزأ من مشاكل الشمال والجنوب ليصبح هو الشخص الذي يرتب ياقته استعدادا للعودة إلى صنعاء عودة الفاتحين والدخول إلى دار الرئاسة الذي يمسك به أحد العساكر حقه (كما وصف علي ناصر الرئيس هادي لبعض زائريه) ليتذكر علي ناصر ساعتها، بابتسام وغرور، حكمته الأثيرة التي يؤمن بها والتي أفصح عنها في حوار له مع صحيفة «السياسة» الكويتية في عددها الصادر يوم الثلاثاء 8 يناير 2008 وهي أنه "لا ينتهي المرء عندما يخسر ...وإنما عندما ينسحب".. وخطير أن تبتسم الأقدار لشخص غارق في التآمر حتى أذنيه، إذ يوهمه هذا الابتسام القدري أنه كان على صواب وأنه مثلما عوّض خسارة 86 العكسرية في 94 فسيعوض خسارة 86 السياسية في 2013.

اللافت في ظل هذا السيناريو غير المستبعد، هو أن الرئيس عبد ربه منصور هادي الرئيس الحالي وإن كان محسوبا على الزمرة إلا أنه أكثر الزمرويين طيبة وأبعدهم عن منطق التآمر.. بل ربما هو طيب إلى درجة "الجوادة" بالمعنى الشعبي الدارج، وهذا كان سببا في اختيار علي عبدالله صالح له كنائب منذ 1994 وفي تحمس السعوديين والأمريكان له كرئيس منذ 2012. وبالتالي يبدو أن المخاوف متركزة في أن يغدو هادي هو سالمين رقم اثنين، فكيف به وهو، إلى الآن، أقل من سالمين حنكة ودهاء وخبرة.

إذن، بموجب هذه القراءة فإن الأزمات في اليمن لم تضع أوزارها بعد، ولايزال القادم (لا كتب الله) مفخخا بالمفاجآت غير السارة، إذا لم ينتبه الرئيس هادي لمثل هذا الفخ التاريخي الذي ينتظره وينتظر اليمن.

بعد علي عبدالله صالح كنا نريد رئيسا أقل ذكاء ولكن ليس أقل إلى هذا الحد الموجود عند هادي. وإذا جاز أن نصف ما عند صالح بالذكاء فإن ما لدى علي ناصر هو دهاء، بينما يمتلك حيدر العطاس وعبدالرحمن الجفري ما يمكن وصفه بالخبث؛ فهما يستخدمان الجميع ويخدعان الجميع في الداخل والخارج.. والخطورة الحقيقية هي أن الرئيس هادي لو واصل اعتماده على زمرة علي ناصر فإنه سيخسر الجنوب والشمال معا، في حين لا يدرك علي ناصر أن لعبته الأخيرة لن تنجح وأن لا شطر شمالي سوف ينزح إليه بعد مؤامرته الاخيرة في صنعاء بل ولا بلد مجاور قد يأوي إليه؛ فالسعودية تبني الآن جدارا عازلا يحول ما بينه والنزوح الجديد.

كل ما سينتج عن لعبة علي ناصر الجديدة هو انه سيقدم خدمة جليلة، من حيث لا يقصد، للعطاس والبيض والجفري تمكنهم من إقامة دولة هاشمية في الثلث الشرقي من اليمن ليناضل الجزء السكاني المحشور في جبال الغرب من الجوف شمالا وحتى أبين جنوبا عقودا من الزمن حتى يتمكنوا من استعادة هذا الجزء من قبضة السلاليين الجدد.

لقد أودى بعلي صالح ذكاؤه، وسيُودي بعلي ناصر دهاؤه، فهل يستطيع اليمنيون أن ينجوا من شراك الخبث التي ينصبها العطاس والجفري والحوثي والبيض..!

زر الذهاب إلى الأعلى