مازال هناك عدد من الآراء الغريبة -أو المضحكة أحيانا- التي وردت في رؤية الحراك الانفصالي في مؤتمر الحوار الوطني.. وهي تستحق الإشارة إليها من باب «شر البلية.. رؤية حراكية»!
ومن ذلك مثلاً: إعلان الاستنكار والشجب لقيام «صنعاء» ببناء أكثر من ألف سد وحاجز مائي في المناطق الجبلية (الشمالية طبعاً) بطُرق عشوائية ودون دراسات جدوى مما أدى إلى حرمان الجنوب من سيول الأمطار (الشمالية.. للتذكير فقط) التي كانت تتدفق إلى واديي: تُبن وبنا، وتروي المناطق الزراعية في محافظة عدن (وهذه معلومة جديدة نستفيدها وهي أن عدن لديها أراضٍ زراعية!)، وطبعاً صار ذلك مؤامرة للإضرار بالجنوب والجنوبيين من خلال حرمانهم من المياه!
تخيلوا: هؤلاء الذين يمنون على اليمن واليمنيين ببترول الجنوب (بالمعيار المناطقي هو: بترول حضرموت، وللدقة هو: بترول المناطق التي ظهر فيها) والثروة السمكية الموجودة في المناطق الجنوبية.. هؤلاء يجدون أن وصول الأمطار الشمالية إلى الجنوب أمر طبيعي (وهو كذلك) وحق مشروع.. وإنقاصه فضلاً عن منعه مؤامرة شمالية على الجنوب!
ترقبوا الآن: في حالة ظهور حراك شمالي انفصالي مضاد أن يكون من أولى مطالبه أن تكون أمطار الشمال للشمال على وزن بترول العرب للعرب.. وبترول حضرموت لحضرموت.. وأسماك الجنوب للجنوب! وربما تصاعدت المطالب لاعتماد كميات الأمطار في كل محافظة كأحد المعايير الأساسية عند تحديد نصيب كل محافظة من مقاعد البرلمان اليمني الجديد.. فمن غير المعقول أن تتساوى مقاعد محافظات جافة قليلة المطر مع محافظات ممطرة كثيرة المياه.. والمياه أكثر أهمية من البترول في بعض الأحيان!
......
ولأن كتابة الرؤى في مؤتمر الحوار الوطني بدون جمارك ولا ضرائب ولا واجبات بل عليها غالباً فلوس ومكافآت (إحدى الرؤى قدمتها عضوة اعترفت أنها اعتمدت في كتابتها على أصدقاء لها وعلى المحروس زوجها..) فقد قيل في رؤية الحراك الانفصالي أن اسم «جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية» كان دخيلاً على الجنوب وعلى هويته التاريخية المتمثلة باسم «اتحاد الجنوب العربي».. حتى إنهم قالوا: كان هناك مقعد في الأمم المتحدة باسم (الجنوب العربي)، وفي آخر لحظة تغيّر إلى (اليمن الجنوبية)!
ورغم أن العقل والمنطق يقولان إنه لا يمكن أن يكون هناك مقعد في الأمم المتحدة لدولة مستعمرة فضلاً عن كيان سياسي هش مثل الجنوب العربي الذي تساقطت إماراته وسلطناته بعد تخلّي بريطانيا عنه مثل البسكويت.. إلا أنني تأكدت من عدم صحة ذلك من الأستاذ نجيب قحطان الشعبي ليطمئن قلبي فقط.. أما حكاية أن «الجنوب العربي» كان هوية تاريخية للجنوب فهو دليل على المستوى العقلي والنفسي (المهلنيش) لكتبة الرؤية الذين سبق لهم أن رفضوا حجية الهوية السياسية اليمنية بحجة أنها لم تعرف كهوية سياسية لليمن إلا عام 1918 أي منذ «93 عاماً» فقط عند إعلان قيام المملكة المتوكلية اليمنية.. ثم نسوا ما قالوه، وها هم يتفاخرون بهوية «الجنوب العربي» التاريخية النهائية(!) مع أنه لم يعرف كهوية سياسية إلا عام 1959 بترتيب من السلطات البريطانية الاستعمارية، ولم يعمر أكثر من تسع سنوات فقط كان خلالها مثالاً للسخرية منه ومن رموزه، وذاب كفقاعة الصابون عام 1967، بعد أن تخلت عنه بريطانيا، وأمرت رموزه السياسية بالرحيل عن عدن والجنوب، وإلا فهي غير مسؤولة عنهم.. ومع ذلك يصفونه بأنه: هوية تاريخية نهائية للجنوب والجنوبيين، وأجزم أن هناك مئات الآلاف من الجنوبيين الذين ولدوا قبل ظهور هوية الجنوب العربي المزعومة هذه ما يزالون أحياءً، أي أن أعمارهم أطول من عمره بكثير جداً.. فكيف يكون هوية لهم؟
....
إعادة بناء مسجد «أبان بن عثمان بن عفان» وتوسيعه في كريتر حتى صار تحفة فنية معمارية؛ تحول إلى عملية «هدم» لأثر تاريخي جنوبي باستهداف شمالي! ولست أدري ما الذي يزعج من تجديد المسجد وتوسيعه بعد سنوات من الإهمال المادي والمعنوي؟ هل غضبوا حقاً على معلم أثري أم غضبوا من توسيعه وتجديده لاستقبال المصلين؟ هل مسجد أبان أكثر أهمية وقداسة من المسجد الحرام والمسجد النبوي اللذين تم تجديد بنائهما كلياً؟
وسبحان مغيّر القلوب والهويات، الذي جعل تجديد بناء المساجد وتوسيعها جريمة، وإهمالها ومطاردة المترددين عليها والاشتباه بهم قبل الوحدة من مظاهر الهوية الجنوبية! وفي المقابل لم يتحدثوا عن معالم أثرية أخرى في عدن تم تجديدها مثل: منارة عدن التاريخية، والصهاريج، وبوابة ميناء عدن الشهيرة، وساعة «بيغ بن» الصغرى التاريخية بعد أن أصابها الإهمال والبلى زمناً طويلاً.. فأين هو الاستهداف للتراث التاريخي لعدن؟
•••
الحديث المتشنج عن مؤامرة تحالف قبلي عسكري ديني ضد الجنوب في حرب 1994 يتجاهل أن الطرف الآخر أقام أيضا تحالفاً مشابها؛ فقبلياً اعتمد على مجموعات قبلية في الشمال، وموّل مؤتمراتها القبلية، وروّج لتحالفاتها المنبثقة عنها، وكان هناك عدد من أبرز مشايخ القبائل في الحلف بل في قيادة بعض وحداته العسكرية، وقيل يومها إن مهمتهم كانت إشعال الوضع حول صنعاء وإثارة الفوضى، والانقضاض من الخلف لولا أن الخطة فشلت.. وفي الجنوب استخدموا الحمية القبلية/ المناطقية التي كانت قد انتعشت في ظل تطبيق الاشتراكية العلمية(!) حتى وصلت إلى أعلى مراحلها في يناير 1986.. أما القوى الدينية فقد كان التحالف على أشدّه مع الطيبين الطاهرين في صنعاء وصعدة، وفي الجانب السياسي كان هناك حزبان سياسيان ليس دينيين فقط بل مذهبيين من النوع الأصلي (الوكالة).. أما القوى العسكرية، فالحال من بعضه لدى الطرفين، وحتى احتكار مديرية أو مديريتين لأبرز المواقع العسكرية في القوات المسلحة للطرفين كان موجوداً ولا فخر عند الجميع!
•••
نختم هذه الخواطر السريعة عن تهمة تغيير هوية مُدن الجنوب بتغيير أسماء الشوارع والمدارس في عدن بأسماء شمالية! أولاً؛ فعملية تغيير أسماء الشوارع والمدارس بدأت بعد الاستقلال بتغيير أسماء المحافظات التاريخية واستبدالها بأرقام.. وأياً كان السبب فقد حدث التغيير، ولم تشر الرؤية لذلك.. وكذلك حدث تغيّر واسع النطاق لأسماء المدارس والشوارع، والأندية الرياضية، والفنادق..الخ، واستبدلت بأسماء وأحداث خاصة بجناح سياسي واحد داخل حزب واحد، وقضت الهوية الجنوبية يومها أن تسمى مناطق وأحياء ومدارس بأسماء من خارج الهوية العربية وليس الجنوبية فقط، وألغيت الأسماء التاريخية أو المعروفة.. حتى اسم «عدن» ألغي من إحدى أشهر المدارس الثانوية، ولم يعد الاسم إلا مؤخراً.. فهل هذا هو الاستهداف للهوية؟
العشوائية الممزوجة بالجهل في الحديث عن تغيير الأسماء في عدن أثارت غريزة السخرية لدى أهل عدن من هؤلاء الذين لعبوا بالمدينة ما شاءوا وخرّبوها عندما حكموها، ثم جاءوا يؤدون دوراً فاشلاً في الدفاع عنها بعد أن طارت عدن من أيديهم.. وكانت النتيجة هذه النكتة التي تقول: إن رمزاً من رموز ما قبل الوحدة سمع الضجة حول تغيير أسماء الشوارع والمدارس في عدن بعد الحرب، فاتصل بمسؤول مهم جداً في صنعاء مندداً بذلك، وجرى بينهما الحوار التالي:
- مش عيب عليكم هذا الذي تعملوه في عدن.. ما فيش احترام للتاريخ والنضال؟
إيش حصل بالضبط؟
يعني بالله عليكم، كيف ترتكبوا هذه الجريمة، وتغيروا أسماء الشهداء الذين ضحوا بدمائهم؟ حرام عليكم!
- طيب بس قل لي أولا: إيش الذي حصل؟
أنتم مجانين.. تغيروا أسماء الشهداء المناضلين.. هذا جزاؤهم!
- يا أخي كل شيء بالهدوء والعقل.. إيش حصل؟
ما فيش هدوء ولا عقل.. خلاص ضاع العقل!
- طيب.. صلي على المصطفى.. وقل لي إيش حصل؟
المصطفى؟ من هو ذا المصطفى؟
- المصطفى هو سيدنا محمد!
للدرجة هذه: حتى الرسول غيرتم اسمه؟