[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

المتلازمات في اليمن القادم: الضرائب والديمقراطية والتنمية المتوازنة

نستهل تصورنا للقضية بمقولة يتداولها أنصار القانون الدستوري أن لا تمثيل من دون ضريبة، وهذا المبدأ يشكل اساس المنطوق الديمقراطي في المجتمعات الديمقراطية الغربية، التي تتمع بقاعدة إنتاجية صلبة ومتنوعة.

البديهي أن القاعدة الانتاجية تشكل المجال الخصب لتأصيل واختبار صحة النظريات الاقتصادية، وحيثما كان المجتمع منتجا كانت المقولات الاقتصادية سهلة التناول والتطبيق والتعديل في آن واحد. تبدو الأمور مغايرة في المجتمعات الريعية من مثل اليمن، حيث كل شيء يأتيها من الدولة سهلا جاهزا. فهي المعين الأول ، وهي الملاذ الأول والاخير للعمل والاقراض والاستثمار ، وهي من تقع عليها مسؤليات وتبعات الاعانة ، وهي في نهاية المطاف المنتج والمستهلك الاول والاخير. وحينما يتقرر أعادة النظر في أسلوب عمل الدولة ، يضج الجميع لانهم اعتادوا على العيش في كنفها دون مقابل. أقتصاد ريعي لا ينتج عنه إلا مجتمعا ريعيا ، ودولة ريعية ، وفي المحصلة عقلية ريعية وثقافة ريعية. الكل يعتمد على موارد خارجية ، والكل يغدو رهينة لها ، ويستمرأون العيش في كنف انفاق حكومي غير رشيد دون أن يتساؤلوا كيف؟ وإلى متى؟. وحالما تصبح ميزانية الدولة في حالة إفلاس يقع الفأس في الراس فتقع الكوارث وينهار المجتمع.

في الدولة الاتحادية الديموقراطية ذات المكنون الفيدرالي، تشكل الضريبة مكونا مهما من مكونات الاقتصاد المحلي ، وموردا رئيسيا من مواردها. ويقاس في حالات كثيرة – على قاعدة الضريبة ، مدى قوة الاقتصاد ، وقوة المجتمع ، وقوة الدولة. بل يقاس على اساسها ما هو أهم من ذلك كله وهي طبيعة العقد الاجتماعي النافذ بين الدولة والمجتمع. ففي الدول الصناعية المتقدمة يصل مستوى متوسط التحصيل الضريبي إلى نحو 40% من الناتج المحلي الاجمالي ، وهو تقريبا أكثر من ضعف المتوسط في البلدان النامية (18%). الوقائع التاريخية تدلل على أنه كلما كان مكون الضريبة أكبر في دخل الدولة ، كلما كانت الدولة أقل هيمنة على المجتمع ، وكلما تمتع المجتمع باستقلالية أكثر وديموقراطية أوسع. وعلى النقيض من ذلك ، إذ تفرض الدولة هيمنتها الواسعة والقوية على شئون الحياة في المجتمعات الريعية حيث الضرائب تمثل مكونا ضئيلا في دخل الدولة. فمعدل الضريبة إلى الناتج المحلي الاجمالي في اليمن يقدر بنحو 8% ، وهو في معظم الدول العربية قريب من هذا الرقم يزيد أو ينقص قليلا. وإذا ما عرفنا أن خزينة الدولة اليمنية تخسر سنويا ما يربو على نصف ترليون ريال من جراء التهرب الضريبي فقط ، فإن الحاجة إلى إصلاح ضريبي شامل يصبح بمثابة طوق النجاة بالنسبة لليمن واليمنيين.

كتب ابن خلدون بشأن أهمية الضرائب في مقدمتة الشهيرة: تدوم السلطة الملكية بالجيش ، والجيش بالمال ، والمال بالضرائب ، والضرائب بالفلاحة ، والفلاحة بالعدل" ، ويستخلص أبن خلدون من ذلك أن العدل شرط أساسي للانتعاش الاقتصادي ، وعلى قاعدة هذا الانتعاش يتم زيادة الضرائب لزيادة الموارد الحكومية الضرورية لتوسيع بنود الانفاق الحكومي الذي يعد شرطا للاستقرار السياسي والاقتصادي.

والضريبة هنا ما هي إلا تحويل لموارد المجتمع من يد إلى أخرى ومن إقليم إلى آخر على النحو الذي يحقق أهداف التنمية المتوازنة. فاذا كانت السياسات التنموية تهدف إلى مزيد من التوسع الاقتصادي أو تحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية في المجتمع والتنمية بين الاقاليم فان طبيعة الضريبة وهيكلها شأن هام لتحقيق مثل هذه الاهداف. وهو عمل معمول به في كل الاقتصادات الديمقراطية. والمواطنون الذين لا يدفعون ضريبة، أو القليل منها، عليهم أن يتوقعوا القليل من المنافع الاقتصادية العامة ونوعيتها والقليل من الحق في المشاركة السياسية.

لا تستطيع الدولة، مثلها مثل الافراد، ان تعيش وتستقر وتدوم، من دون تأمين موارد ثابثة وصلبة ومتنامية في نفس الوقت. ويتحدد طبيعة وظيفة الدولة ودرجة قوتها واستقلاليتها من خلال طبيعة وحجم مصادر دخلها. فكلما كانت الدولة أكثر أعتمادا في تأمين مواردها على المصادر الخارجية (كالنفط أو القروض والمساعدات الخارجية) كلما كانت أشد ارتباطا بالعوامل الخارجية ، وأقل أرتباط بالاقتصاد والمجتمع المحلي. وهو أمر ضار بالاقتصاد وبعلاقة الدولة بمجتمعها ، حيث تغدو الدولة أكثر استقلالا عن مجتمعها وأشد ارتباطا بالخارج، فيما يبدو المجتمع بتكويناته المختلفة أكثر اعتمادا عليها وأقل استقلالية. وهنا تبدي الدولة أهتماما أقل بقضايا نمو وتنمية الاقتصاد المحلي، وتؤاثر العمل على تنمية المصادر الخارجية عن المصادر المحلية ، كما هو الحال السائد في اليمن.

ولا يتوقف الامر هنا، عند طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع على الحدود الاقتصادية لهذه العلاقة ، بل يتعداه إلى المجالين السياسي والاجتماعي. حيث تتسم الدولة بطبيعة قمعية تجاه مجتمعها وتصبح الديموقراطية إن وجدت شكلا ديكوريا ليس إلا ، والعكس صحيح. فالمجتمع المنتج المولد للدخل والثروة ، سواء مجتمع الاعمال أو مجتمع العاملين ، يتمتعان بالقوة الاقتصادية والنفوذ السياسي ، في الفضاء السياسي العام ، التي تشكل الدولة جزءا منه . بل ما هو أكثر من ذلك ان الدولة المعتمدة في دخلها على الاقتصاد المحلي ستكون أشد ارتباطا به وحرصا على تنميته وتوسعه ، وأكثر قبولا وتقبلا للحضور والمشاركة السياسية لممثليه. أن تكون الدولة قوية مستقلة عن اقتصادها المحلي ، سوف يجعلها أقل اهتماما بصياغة استراتيجيات وسياسات التنمية وإشراك أطراف المجتمع في صياغتها وتنفيذها. ولقد شهدنا في العقود القليلة الماضية أن الاقتصاد اليمني كان أشد ارتباطا بالدولة وأقل تحررا من هيمنتها فيما تتخذه من قرارات اقتصادية وسياسية. فهل آن الأوان ونحن على أعتاب مرحلة جديدة أن نؤسس لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع وأن نضع هذا الامر موضع الاعتبار الأول.

زر الذهاب إلى الأعلى