أرشيف الرأي

شتاء الحريّات الصحافيّة في اليمن

فصل الربيع في اليمن، بفضل مناخه المتعدّد والمتنوع، مختلف، ففي صنعاء وما حولها، يبدأ الربيع في الثالث عشر من يناير/ كانون الثاني، بينما يبدأ في تهامة في الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول، والفارق شهر. وفي حضرموت، يبدأ الربيع باكراً في الحادي والثلاثين من ديسمبر/ كانون الأول.

بدا ربيع الثورة العربية السلمية في اليمن متفاوتاً، بسبب طقس الحالة الاجتماعية، وحرارة حرب صيف 1994، فالجنوب الذي عانى ويلات تلك الحرب، وتعرض للتدمير والنهب، وأُلغي كيانه وجيشه وأمنه ومشاركته في دولة الوحدة، نزل قادة جيشه وأمنه إلى الميادين، مطالبين بحقوقهم ومعالجة أوضاعهم. ومنذ العام 1997 وحتى 2011، ظل الجنوبيون يصعّدون احتجاجاتهم السلمية، داعين مدن الشمال إلى الالتحاق بهم.

انبجس ربيع الثورة في المدن الشمالية، الواقعة تحت نير القبضة الحديدية، في تعز أَولا، ثم صنعاء وإب والحديدة وحجة وذمار. كان العامان 2011 و2012 من القرن الجديد بداية الثورة الشعبية في اليمن كلها.

هناك بدايات متفرقة، أعقبت حرب 1994 في حضرموت، واحتجاجات مؤسسات المجتمع المدني في غير مدينة، وخصوصاً في عدن وصنعاء وتعز.

وكانت الصحافة والصحافيون واجهة الصدام، منذ ما بعد الحرب مباشرة. وتعرّض عديدون منهم للاختفاء القسري والاختطاف والضرب وإغلاق الصحف ومحاكمات وفصل من الوظيفة، وإلى إجراءات قامعة، تبدأ ولا تنتهي. وخلال بضعة أعوام، سنّت حكومات الحرب المتعاقبة نحو عشرة مشاريع قوانين صحافة، تتسابق وتتبارى إلى ابتداع مواد قامعة للحرية، وسالبة للحق في حرية الرأي والتعبير والحصول على المعلومة. إضافة إلى قانون الصحافة لسنة 90، وهو يتضمن ما لا يقل عن 250 مخالفة رأي، توجب عقوبة السجن، وفيه مواد كثيرة، تتضمن عقوبات قاسية، وهو مفتوح على القوانين العقابية الأخرى.

تواجه الصحافة في اليمن عوائق موضوعية وذاتية، فالبيئة الأمية المدججة بالسلاح، والتي تتقاسم القوة والعنف مع السلطة، عائق حقيقي أمام الكلمة وحرية الرأي والتعبير. وهناك موروث سلبي إزاء القول في الأمثال الشعبية السائدة في البيئة الأهلية، فالكلام للنساء، والكلام هدرة، أي لا معنى له. والصحافي "دوشان"، نسبة لفئات مهمشة، والأمية الأبجدية عائق حقيقي في مجتمع تصل فيه الأمية الأبجدية بين الذكور إلى 60%، وبين الإناث إلى 70%.

يفرض المجتمع الأهلي والتقليدي قيوداً على ضمير الكاتب وحريته. فيفرض رقابة داخلية هي أقصى الرقابات على الضمير والوجدان. والرقابة المجتمعية، على قسوتها، تعزّز في اليمن بمناهج تربوية سلفية جهادية، تُخوّن وتكفّر وتأثّم. وتقصي التسامح والتفتُّح والحرية، والعقلانية تتواشج مع خطاب إعلامي مؤدلج ومسيّس، وأحادي يزيّف الوعي ويفتئت على الحقيقة ويقصي الآخر. ويجيء خطاب المسجد المشحون بالتكفير، والمحرّض على العداوة والكراهية. ويرفد خطاب الأحزاب التقليدية أجواء التصارع المذهبي والقبلي والجهوي.

مثّلت حرب صيف 1994 انتكاسة حقيقية للحياة السياسية وللحريات العامة والديمقراطية، وخصوصاً للحريات الصحافية. فقد أصبح الاختطاف والاختفاء القسري والضرب، وكذلك الاعتداءات الكثيرة والاعتقال والمحاكمات الجزافية، عذاباً يومياً للصحافيين، إضافة إلى مصادرة الصحف وإغلاقها، والقتل المعنوي والأخلاقي للعاملين في هذه المهنة. وخصوصاً النساء، ووصل الأمر إلى حد سرقة معدات الصحف المعارضة، والحرب عليها. "الأيام" و"النداء" مثالان.

الكارثة الحقيقية في اليمن أن السلطة الضعيفة، ذات الجذر القبلي، تخلّت عن وظيفتها الأساسية في احتكار القوة وممارسة العنف، لصالح القبيلة، ولفرق الإرهاب والاغتيالات، من جماعات القاعدة وأنصار الشريعة ومليشيات الأحزاب الكبيرة وشيوخ الضمان وكبار النافذين، ما جعل المدنيين ضحايا للعنف والإرهاب، وكان نصيب الصحافيين فادحاً، لاستهدافهم من كل هذه الأطراف.

تواجه الصحافة والحريات الصحافية في اليمن تحديات وعوائق متداخلة ومتعددة. فالبيئة التقليدية، شديدة التخلّف والفقر والقهر، تفرض تربيةً بدائية محافظة وقاسية. وتجيء المناهج التربوية مكرسة لقيم التخلّف والجهل، ومعبّأة بالتكفير والتفسيق ومعاني التحريم والتجريم. ولعدة عقود، تخضع المساجد للتيارات السلفية الجهادية، وللتديُّن المتحزّب والمؤدلج المُجرِّم التعدُّد والمؤثِّم حرية التفكير والإبداع.

وتمتلك، أو بالأحرى، تسيطر الدولة على أربع قنوات فضائية، وثلاث صحف يومية، وما لا يقل عن خمس عشرة إذاعة، موزّعة على المدن الرئيسية. وكل هذه الوسائل الإعلامية موجهة لتمجيد الحكم والحاكم، ومعادية للتعدّد والتنوع، ومجرّمةً للاختلاف، شأن خطاب المسجد ومناهج التربية وبيئة المجتمع الأهلي. وتتوّج هذه العوائق بقوانين عقابية تتضمن عشرات المواد السالبة للحرية الصحافية، والرافضة الحق في الحصول على المعلومة، وتفرض عقوبات يصل بعضها إلى الحكم بالسجن، وإلى الإعدام أيضاً.

ويجد الصحافي نفسه أمام دستور ينص على الحق في المساهمة في الحياة السياسية، وفي حرية الرأي والتعبير، لكنه نص يحجم عن التنصيص، صراحة، على الحريات الصحافية، بمعناها الأوسع، والأدهى أنه يحيل إلى القانون، قانون المطبوعات والنشر لسنة 1990، وفيه مواد كثيرة تفرض قيوداً وعقوبات على حرية الرأي والتعبير، ثم ينفتح القانون نفسه على قوانين عقابية أخرى: الجرائم والعقوبات، الإجراءات الجزائية، المرافعات، الأحزاب، الوثائق، الانتخابات، الملكية الفكرية. وجرت تعديلات أكثر سوءاً وتقييداً على قوانين عديدة منها، عقب حرب 94.
ويعطي قانون الصحافة للقاضي حق توقيع عقوبة، يسمّيها تكميليّة، متروكة لتقدير القاضي وضميره، ما يؤدي إلى توقيع أكثر من عقوبة في مخالفة رأي واحدة.

ونفّذت أحكام بالفصل من الوظيفة والمنع من الكتابة وإيقاف الصحيفة والسجن أحياناً، بل والجَلْد، كما حصل في قضية الصحافيين الأخوين: عبد الله سعد وعبد الجبار سعد، واللذين حكم عليهما بالمنع من الكتابة، وإيقاف الصحيفة والجلد والتغريم.
توضع هذه القوانين القامعة بين يدي قضاء فاسد، غير كفؤ وغير نزيه وغير مستقل، في الغالب الأعم، ما يجعل الصحافي أمام مخاطر ومحاذير، تبدأ ولا تنتهي. فالبيئة كلها، ابتداءً من الأسرة، مروراً بالمدرسة، وصولاً إلى المسجد والإعلام الرسمي! ومن ثم التشريعات والقوانين والقضاء التابع للسلطة، فاسدة ومستبدة.

بعد ذلك كله، تأتي الممارسات القامعة خارج النظام والقانون، وخارج الأحكام القضائية الجائرة، وخارج ممارسات الأمن المتعددة والمعادية للحريات الصحافية. فالتفلّت الأمني والصراع الكالح والدامي بين سلطة وأمن وجيش منقسم ومتفلّت من جهة وحركات إرهابية وميليشيات مسلحة، من جهة أخرى، بعضها تابع للمشايخ وللأحزاب الكبيرة: المؤتمر والإصلاح والحوثيون. وكلها أدوات قمع وإرهاب، ضداً على الصحافة والصحافيين وحرياتهم.

كان الربيع العربي في اليمن خصباً، فالصحافيون ومؤسسات المجتمع والأحزاب شاركت فيه بحيوية وفاعلية. وقدم الصحافيون خمسة شهداء خلال الاحتجاجات السلمية وعشرات الجرحى الذين امتنعت الحكومة عن علاجهم، حتى بعد صدور أحكام قضائية لصالحهم. أما الاعتقالات والاختفاء القسري والتهديد بالقتل والاختطاف فكثيرة. ورصدت منظمات "أوراق بيضاء"، بدعم من المنتدى السياسي، بعض هذه الانتهاكات، ورصدت منظمة "صحافيات بلا قيود" الانتهاكات للعامين 2012 و2013.
وهو رصد جيد، لكنه غير مكتمل ولا شامل. وقامت مؤسسة "حرية الإعلام" بجهود رائعة وواسعة، بشأن انتهاكات العامين المذكورين. وتناولت هذه المنظمات الصحافية، الأهلية والمستقلة، دوراً رائعاً في تدوين الانتهاكات ورصد التجاوزات وإصدار بيانات إدانة وتضامن، في ظل ضعف دور نقابة الصحافيين، والتي غاب جزء من قيادتها، وتوزعوا على مراكز الحكم والأحزاب الحاكمة.

ما زالت سحب الربيع العربي واعدة، فالاحتجاجات شبه يومية تغمر شوارع المدن. وحتى المجتمع الأهلي في القبيلة هو الآخر يعلن التمرّد على قياداته المشيخية الكبيرة ويتقارب يوماً بعد يوم مع المجتمع المدني. كما يتمرد الجنود على قياداتهم.

أنشئت قنوات فضائية أهلية تابعة للأحزاب الكبيرة والحوثيين، كسرت احتكار السلطة الفضاء الإعلامي، كما أن الإذاعات (ال M-f)، هي الأخرى، كسرت سيطرة الحكم على أكثر من خمس عشرة إذاعة في محافظات عديدة، وهناك، الآن، صحف أهلية يومية: "المصدر" و"الأولى" و"الشارع"، تنافس الصحافة الرسمية، وتتفوّق عليها.

صحيح أن بعض هذه القنوات والصحف المقروءة كثيراً ما تنجرّ إلى صراعات حزبية ومكايدات وصراعات طائفية وجهوية وقبلية، لكن الملمح الأهم كسر احتكار الإعلام، وتجسيد التعددية السياسية والفكرية، والتباري في نقل الخبر ونشر الحقيقة وتعزيز الحريات الصحافية وخدمة الجماهير وتوعية الناس.

منذ عامين، عكف نواب على إعداد مشروع الإعلام المرئي والمسموع، وشاركهم بعض من قيادة النقابة. واعترض الجسم الصحافي على المشروع. وبغتة، يُقدَّم المشروع أمام مجلس النواب، ولا يأخذ في الاعتبار مخرجات الحوار الوطني الشامل، ولا طبيعة مجلس النواب الحالية المكرّسة فقط لتسهيل مهام المبادرة الخليجية، ولا للّحظة التي تعكف فيها لجنة معيّنة لإعداد دستور جديد. ويصطدم المشروع مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومع توجه الثورة الشعبية السلمية.

زر الذهاب إلى الأعلى