يحتفظ التاريخ السياسي والسوسيولوجي لليمنيين بأنهم من أكثر الشعوب التصاقاً بظاهرة الترحال والارتحال نحو التفكك والتباعد والتشرذم وأنهم ومنذ دعوا ربهم مخلصين بأن يباعد بين أسفارهم قد ارتهنوا لثقافة حرق المراحل والهروب من فلكهم الواحد إلى أفلاك مختلفة يبحثون فيها عن التفرد والغلبة والأمن والأمان والاستقرار إلى درجة أن هناك من يعتقد انه لا يوجد حتى الآن شعب في اليمن وإنما كتل بشرية لا تجمعها هوية واحدة؛ ممّا جعل الكثير من هذه الكُتل عاجزة في كثير من الحالات عن التعرف على نفسها وتحديد هويتها لان مثل هذه الهوية بالنسبة لها مازالت إما غامضة أو ملتبسة عليها أو متضاربة أو مختزلة في هويات جهوية أو مناطقية أو مذهبية هي أقرب إليها وأوضح من أية هوية مشتركة.
لذلك يصبح الأمر غريباً بعض الشيء إذا ما قيل أن التعريف بتاريخ هذا البلد وحضارته قد جرى من قبل الآخرين بصورة أعمق من أبنائه الذين مازالوا حتى اليوم لايعرفون أنفسهم وبفعل هذه الحالة فقد ظلت أجيال اليمنيين تتوارث ثقافة الترحال والارتحال حقبة بعد حقبة وكأنها من تدور في حلقة مفرغة لا تعرف ماذا تفعل وماذا تريد وفي أي اتجاه تسير واتّساقاً مع هذا النمط من الترحال, فقد هرب اليمنيين في عام 1918م من الحكم العثماني الذي بسط سلطانه على المحافظات الشمالية منذ العام 1849م إلى حكم الأئمة الذين لم يفلحوا في إقامة دولة حصينة في هذه المحافظات التي ظلت على تخلفها وفقرها وجهلها وحرمانها قبل أن تنتفض على هذا النظام البائس بثورة 1962م التي جاءت بالنظام الجمهوري وفي الوقت ذاته فقد انتفض الجنوب هو الآخر ضد المحتل البريطاني الذي أقام في عدن منذ عام 1838م ليخرج منها مرغماً في 1967م ليعلن الجنوب عن قيام الجمهورية الثانية بعد الجمهورية الأولى في الشمال ورغم أن الشطرين اليمنيين قد انتقلا بموجب تلك الجمهوريتين إلى واقع جديد يفترض انه الذي يجسد إرادة الشعب في الشمال والجنوب فقد استمرت عوامل الشقاق والخصام والتناقض والانفصام على أشدها بين الشطرين؛ لينزلق كلٌ منهما إلى حروب وصراعات طاحنة ودامية, أكان ذلك على مستوى كل شطر أو على نطاق الثنائية الشطرية؛ لنكتشف أن المشكلات والمنغصات التي اعتقدنا أننا سنتخلص منها ونتحرر من ندوبها بمجرد سقوط نظامي الإمامة والاستعمار قد أُعيد إنتاجها بشكل آخر تحت مظلة الحكم الجمهوري الذي نجح في صناعة وحدانية الحاكم الفرد ووحدانية الحزب الحاكم؛ لنعيد الترحال والارتحال وحرق المراحل بمدخلات جديدة لا تختلف في جوهرها ومضمونها عن الدورات السابقة.
وحتى لا يقال إننا الذين لم ندمج مع تحولات العصر فقد اتجهنا إلى إتاحة الفرصة لكل التيارات لتجريب حظوظها في الحكم وبناء الدولة المعاصرة فجربنا القوميين بجناحيهما البعثي والناصري وجربنا أيضاً الشيوعيين والاشتراكيين والليبراليين والإسلاميين إلا أنها في مجموعها فشلت في إيجاد نظام حكم يشابه أنظمة الحكم المتداولة في المحيط العربي والدولي, فلا النظام في الشمال كان ليبرالياً صِرفاً ولا النظام في الجنوب اشتراكياً بالمعنى الذي كان يُحكى عنه في وسائل الإعلام.
وتحت ضغط انعدام الرؤية فقد استمر هذا البلد يتقلب سنين عديدة بين الوحدة والانقسام فكلما حاول الاقتراب من الوحدة عاد ثانية إلى مربع التشطير وكلما استقر أمره على التشطير عاوده الحنين إلى الوحدة ليهرب بشقيه من ذلك الوضع الملتبس إلى دوامة العنف التي ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء هذا الشعب ومع كل تلك الدورات العنيفة كان يجري التأكيد في الشطرين على أن الخلاص من هذا الواقع المرير لن يكون إلا بالوحدة وإنهاء حالة التشطير التي تعد في حد ذاتها باعثاً على الاحتراب والصراع بين أبناء الوطن الواحد.
ومن المفيد التذكير هنا على أن الوصول إلى الوحدة التي جرى رفع علمها في 22مايو 1990م قد استغرق من اليمنيين أكثر من عقدين حفلت سنواتهما بمئات الاجتماعات والمؤتمرات والمفاوضات والتي كانوا في كل واحدة منها يحاولون أن يضيفوا حجراً جديداً إلى البناء الوحدوي إلا أن وقوع الشطرين تحت تأثيرات الاستقطاب في حقبة الحرب الباردة قد جعل ذلك البناء يصطدم في أحيان كثيرة بالتدخلات الخارجية حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي والتي تخلّى فيها الاتحاد السوفيتي سابقاً عن سياسته شيئاً فشيئاً في الجنوب ليشكّل هذا التحول دافعاً للتعجيل بإنجاز الوحدة على أساس الاتفاقات السابقة التي بقيت دون تطبيق.
وعلى طريقة ( الترحال) فان هذه الوحدة التي شكلت حلم الأجيال اليمنية سرعان ما وقعت ضحية صراعات من قاموا بانجازها لتدخل البلاد في مرحلة انتقالية ملبدة بالضبابية والغيوم والانقسامات وحالات من التشرذم السياسي والاجتماعي التي تتنافى تماما مع المنطق السليم وابسط مستلزمات الوحدة والقيم الوطنية والدولة الجامعة والتي بدت غائبة وغريبة وسط حمّى تلك الصراعات المحتدمة التي انزلق من خلالها البلد إلى حرب أهلية طاحنة صيف عام 1994م والتي شعر معها علي سالم البيض بأن كفة الميزان تميل لصالح الطرف الآخر فاتجه نحو مغامرة غير محسوبة بإعلانه فك الارتباط وعودة الجمهورية الشطرية في الجنوب, إلا أنه وعلى عكس ما أراده البيض فقد جاء ذلك الإعلان قاصماً لظهره ومخيباً لكل من شجّعه على تلك الخطوة البائسة التي ارتدت عليه ودفعت به إلى خارج البلاد.
على أن من أشد الأمور اتصافاً بالتناقض والتضارب أن يتخلى علي سالم البيض عن الوحدة وهو من قال عند رفع علمها: إن ما جرى صبيحة الـ22 من مايو قد طوى صفحة سوداء في التاريخ اليمني تجسدت في ذلك التشطير المقيت الذي فُرض على شعب واحد وموحد منذ آلاف السنين !
وكيف تغير علي سالم البيض من شخص رفض (الفيدرالية) التي طرحها الشمال وأصر على الوحدة الاندماجية بوصف هذه الصيغة استحقاقاً لا يقبل المساومة ليعود القهقرى وينقلب على الوحدة التي أشار ذات يوم إلى أن من سيقف في طريقها سيجرفه التيار ويلقيه خارج التاريخ؟ فهل هو الحنين إلى الترحال وحرق المراحل؟ أم انه الحنين لاستعادة سلطة سبق للبيض وإن استأثر بها ؟ أم أنه الارتهان لإغراءات الخارج الذي وجدناه آنذاك يحتشد ضد الوحدة الوطنية في أروقة الجامعة العربية والأمم المتحدة ومجلس الأمن أم انه الإحساس بالتهميش والإقصاء كما يطرح اليوم قادة الحراك الجنوبي الذين يتمسكون بالانفصال ويرفضون أي حل غيره ؟ أم أن هناك أسبابا أخرى سيكشف التاريخ عنها في قادم الأيام لينكشف القناع عن القناع الذي يتخفى وراءه أعداء الوحدة والمنقلبون عليها؟.
وفي كل الأحوال فقد جرت مياه كثيرة خلال الفترة التي أعقبت تلك الحرب وتغيرت موازين القوى التي كانت قائمة في اليمن وبرزت معادلات جديدة على اثر عاصفة الربيع العربي التي هبت على اليمن والمنطقة وانتقلت البلاد من مرحلة إلى مرحلة أخرى محكومة بإرادة داخلية وخارجية وخارطة طريق توافق عليها اليمنيين في حوار استمر لأكثر من عشرة أشهر تنازل بموجبها الجميع عن الوحدة الاندماجية لصالح الارتحال نحو الدولة الاتحادية بعد إن اقتنعت النخب السياسية أن الوحدة الاندماجية قد فشلت أو أُفشلت في بناء دولة عادلة وان البديل هو الفيدرالية أو دولة اتحادية من ستة أقاليم يتقاسم فيها الجميع السلطة والثروة والمغانم والمكاسب.
وما يخشى منه ونحن نساق من جديد إلى الترحال والارتحال أن نصل إلى اليوم الذي نجد فيه أن صيغة الدولة الاتحادية ليست هي الخيار الذي كنا نبحث عنه ليتكرر الخطأ على غفلة من الزمن بعد أن نكون جربنا كل الخيارات لذلك فان ما نتمناه هذه المرة أن يكون اليمنيين أوعى لماضيهم وافهم لحاضرهم واحرص على مستقبلهم وأنهم الذين استوعبوا أن خيار الدولة الاتحادية هو الخيار الأخير الذي لن يكون بعده سوى الشتات والانحلال والضياع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
ليس ما نذكره تعقيداً للمهمة أو بثاً لروح اليأس في التغيير والإصلاح ففي آخر المطاف تبقى الحقيقة أن معضلتنا في اليمن تتمثل في أننا الذين لم نعتد الاستقرار ولم نتكيف على منطق التعايش تحت إطار جامع وكأن قدرنا أن نظل في حالة من الترحال والارتحال نحو الهوية الأدنى والإطار الضيق فالجماعات الصغيرة تفرخ ماهو أصغر منها والحزب يتشظى إلى عدة أحزاب والصراع ينتج صراعاً لنظل مشغولين بحروبنا وانقساماتنا وقبائلنا المتصارعة, فلا منهجية في إدارة الخلافات ولا تقاليد لاحتواء التناقضات ولا ثوابت عليا متفق عليها يمكن أن تلجم الانفعالات.
لا حلول سهلة في الدولة الاتحادية ولا وصفات سحرية يمكن أن تأتي بها هذه الدولة ذلك هو ملخص الرسالة والذين يبحثون في الدولة الاتحادية عن حلول سهلة, عليهم أن يعلموا أننا مقدمون على التحدي الأكبر والمهمة الأصعب والتي لامجال فيها لأي فشل؛ لأن أي فشل حتى وإن كان صغيراً هو سيطلق رصاصة الرحمة على هذه الدولة وهذا البلد وبما لا تقوم له بعدها قائمة.