يحتفل العالم في هذا الشهر (نوفمبر) بالأسبوع العالمي لريادة الأعمال Global Entrepreneurship Week (GEW ) وهو مبادرة عالمية للدفع بعملية التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وبناء القدرات وتحفيز روح الإبداع والابتكار والمخاطرة. ويهدف بصفة عامة إلى التعريف بأنماط ريادة الأعمال، ونشر وتعزيز ثقافة ريادة الأعمال والعمل الحر في المجتمع وتوعيته بدورها في الاقتصاديات الوطنية. كما أنه يمثل مناسبة عالمية كبرى للاحتفاء بالمبتكرين والمبدعين ومخترعي الأعمال الذين يطلقون أفكاراً عملية إلى الحياة، ويخلقون فرصاً وظيفية، ويؤسسون مشاريع وشركات جديدة قابلة للنمو والتوسع، ويشاركون في دعم رفاهية الإنسان. ويشارك في فعاليات الأسبوع الريادي المسئولون الحكوميون وصناع السياسات، وقادة الرأي، ورجال الأعمال والمستثمرون ورؤساء الدول، بغرض تقديم الخبرات وعرض التجارب الناجحة وتقديم النصح والإرشاد لرواد الأعمال الناشئين.
ولكن من الملاحظ أن مفهوم ريادة الأعمال يشوبه الغموض لدى كثير من الناس، ومن هنا ارتأيت تقديم ورقة فكرية مكثفة عن هذا المفهوم، وبما يساعد القارئ على تكوين فكرة مبدئية عنه وتمييزه عن غيره من المفاهيم الأخرى. يعود أصل مصطلح الريادي (Entrepreneur) إلى الكلمة الفرنسية (Entreprendre) والتي تعني الشخص الذي يتحمل المخاطر (Risks) في أي نشاط اقتصادي، ثم ترجم من الفرنسية إلى اللغة الانجليزية ليعني التاجر (Merchant)، أو المغامر (Adventurer).
وفي اللغة العربية بحسب معجم لسان العرب، فإن كلمتي الريادي والريادة مشتقة من الفعل (راد)، وراد الكلأ ويروده روداً ورياداً، وارتاده ارتياداً، أي بحث عنه وطلبه. واسم الفاعل منها (رائد) وهو من كان يرسله قومه لاستكشاف أماكن جديدة للكلأ ومساقط الأمطار. ثم أصبح لهذه الكلمة مرادفات كثيرة في اللغة العربية حيث أصبحت تعني: العصامي، المخاطر، صائد الفرص، الطموح، المبدع، المغامر، المبادر، متعهد الأعمال، المستثمر الصغير وغيرها. ومن الناحية الاصطلاحية يعد مصطلح الريادة ظاهرة ذات طبيعة متعددة الأوجه والمشارب، ولا يوجد حتى الآن إجماع حوله، ولكن هناك عدد من التعريفات، ما يربو على (90) تعريفاً.وسنحاول هنا طرح أشهرها ومنها: عرف جوزيف تشومبتر (Schumpeter) الريادة بأنها الهدم أو التدمير الخلاق (Creative Destruction) من أجل إحداث التوازن في الواقع الاقتصادي من خلال ما يقدمه رواد الأعمال من منتجات جديدة، أو أساليب إنتاج حديثة.
وورد تعريف الريادة في أدبيات الأمم المتحدة بأنها: عملية لتحويل ونقل فكرة تجارية إلى مشروع جديد أو تنمية مشروع قائم أو شركة ذات إمكانية نمو عالي. ويعرفها أبو الإدارة بيتر دراكر بأنها القدرة على إدراك الفرص التي لا يراها الآخرون في الأسواق ثم تقييمها واستغلالها بجدارة. أما هيزرتش وبيترزHisrich & Peters) ) فيريان أن ريادة الأعمال تعني خلق شي مختلف وذو قيمة من خلال إنفاق الوقت والجهد وتحمل المخاطر المالية والنفسية والاجتماعية، وبالمقابل تلقي المكافأة والعوائد المالية والرضا الشخصي نتيجة ذلك. وأخيراً يرى الأكاديمي السعودي د. احمد الشميمري بأن ريادة الأعمال عبارة عن عمل حر يتسم بالإبداع ويتصف بالمخاطرة.
ولقد مثلت الثمانينيات من القرن المنصرم عقد الثورة الريادية؛ حيث ازداد خلاله الاهتمام بدور ريادة الأعمال كمحرك (Engine) لاقتصاديات الدول، بل إن البعض يعزي ما تم من نمو في اقتصاديات الدول الغربية خلال العقود الأخيرة إلى انتشار النزعة الريادية لدى أشخاص أقاموا مشاريع ريادية صغيرة، نمت وتحولت إلى مشاريع عملاقة من أمثال بل جيتس مؤسس شركة (Microsoft )، وستيف جوبز مطور شركة (Apple) وكذلك مارك زوكربيرغ مبتكر برنامج (Face book)، وكذلك بنك الفقراء (Grameen Bank) في بنغلاديش كمحاولة ريادية اجتماعية قام بها أستاذ الاقتصاد د. محمد يونس، الحاصل جائزة نوبل بموجبها. وعلى مستوى الجزيرة العربية، هناك عدد من العصاميين الذين بدأوا كرواد اعمال ثم أصبحوا رجال أعمال يديرون شركات عملاقة، من أبرزهم: صالح الراجحي وصالح كامل، عبد اللطيف جميل، أحمد بقشان، ناصر الخرافي، ومحمود سعيد، عبد الخالق سعيد، وهائل سعيد، والكريمي للصرافة، وغيرهم ممن بدأ وبمشروع أو محل تجاري صغير. وينطوي مفهوم الريادة على أشكال متعددة مثل: ريادة المرأة وريادة الشباب وريادة المتقاعدين وريادة المغتربين والريادة الاجتماعية. والريادي قد يكون رجل أو امرأة، وقد يكون متعلم أو غير متعلم، مهندس أو ممرض أو معلم، موظف أو متقاعد، خريج جامعة أو لا يزال في قاعات الدراسة، وقد يكون منحدراً من طبقة فقيرة أو طبقة غنية. وتستمد ريادة الأعمال أهميتها من النظر لأي مشروع ريادي ناشئ على أنه وسيلة فاعلة لخلق أسوق جديدة وتشغيل عدد إضافي من الأيدي العاملة، ومجال لممارسة الإبداع والابتكار وزيادة الإنتاجية وتحقيق الرضا والدخل الشخصي، وتمثل ريادة الأعمال القوة التي تقف خلف الإبداع والابتكار، وخلق الثروة، كما أن ما يسفر عن الحركة الريادية من مشاريع صغيرة تعتبر رافد مهم للاقتصاد المحلي والوطني، وتسهم في خلق عدد كبير من الوظائف وفرص العمل على المدى الطويل، والتي تستوعب جزء من العمالة؛ مما يحد من توسع رقعة الفقر وغيرها من المشكلات الاجتماعية، بالإضافة إلى ذلك تسهم ريادة الأعمال في رفع مستويات الإنتاجية وتنويع القاعدة الإنتاجية، وتعزيز القدرة التنافسية، ونقل وتوطين أساليب وأدوات التكنولوجيا الحديثة من الدول المتقدمة، أو قيام الرياديين بابتكارات تكنولوجية جديدة.
وأخيرا تساعد ريادة الأعمال على الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، وإدراك الفرص المتاحة، والاستقلال من الاعتماد على وظائف الآخرين، والاعتماد على التوظف الذاتي، وتقليل هجرة العقول المبدعة، وتجسير الفجوة بين العلماء والعملاء أو بين العلم والسوق. وقد يخلط بعض الناس بين ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة، ويستخدمون المفهومين في بعض الأحيان بشكل تبادلي، مع أن هناك فروق جوهرية بينهما، برغم وجود الجوانب المشتركة بين مفهومين، ومن أبرز تلك الفروق مقدار الثروة الكبيرة المتولدة عن المشروع الريادي، وكذلك عملية المخاطرة التي تكاد تختفي في المشاريع الصغيرة، فضلا عن الابتكار والإبداع وتحويل الأفكار إلى منتجات وخدمات ذات عائد مربح وهو ما لا تتصف به المشاريع الصغيرة، كما أن المشروع الريادي يتسم بالنمو المستدام ويستخدم في إدارته منهج استراتيجي، ليس ذلك فحسب بل أن ريادة الأعمال تعبر عن نمط من أنماط السلوك المرتبط باستثمار الفرص أكثر من ارتباطه باستخدام الموارد المتاحة، وما المشاريع والشركات الصغيرة إلا أداة يستخدمها رواد الأعمال من أجل تقديم منتجات وأنشطة جديدة، وكل مشروع ريادي هو مشروع صغير قابل للنمو، ولكن ليس العكس. وأخيرا يمكن القول أن ريادة الأعمال تمثل حالة ثقافية في المجتمع يساهم في بناءها عدة أطراف كالمدرسة والجامعة والإعلام ومراكز البحث العلمي ومنظمات القطاع العام والخاص والغرف التجارية والمؤسسات غير الربحية ونحو ذلك، وهو ما يطلق عليه بيئة الريادة أو النظام البيئي لمنظومة ريادة الأعمال (ECO-SYSTEM). وهي - أي ثقافة ريادة الأعمال- تبدأ قبل تأسيس المنشأة الصغيرة وتظل بعد قيامها وموتها أيضا، بينما المنشات الصغيرة والمتوسطة تمثل قطاع اقتصادي قائم بمؤسساته ويسعى للبحث عن موارد مالية ومعلوماتية لتعزيز إنتاجيته وربحيته وتنافسيته. ونختتم هذه المقالة بالإشارة إلى خصائص رواد الأعمال ومن أبرزها: الدافع للانجاز والنجاح، الثقة بالنفس، الاستعداد للمخاطرة، القدرة على صنع القرارات في المواقف المعقدة، القدرة على كسب الآخرين، القدرة على بناء العلاقات، التفاؤل، الطاقة الذهنية، العناد، التوجه بالنتائج، المرونة، الوعي بالذات، التسامح مع الغموض وعدم التأكد، التعلم من التجارب، الحدس، الحساسية للآخرين، العدوانية أحيانا، التحكم الداخلي، عدم الرضا عن الوضع الراهن، المال كمقياس للأداء، بالإضافة إلى ضرورة توفر المهارات الإدارية لدى الريادي كالقدرة على التخطيط والتنظيم والرقابة وإدارة الموارد البشرية والتسويق والإدارة المالية وغيرها.
وفي الجمهورية اليمنية تم مؤخراً تشكيل حكومة جديدة وصفت بأنها حكومة متخصصين (تكنوقراط)، ومن المتوقع أن تعطي أولوية للجانب الاقتصادي الذي تعد ريادة الأعمال بمثابة المحرك الأساسي له (Engine). ومما لا شك فيه أن اليمن لم تتخذ حتى الآن أي توجهات أو خطوات جادة نحو خلق ثقافة ريادة الأعمال، وليس هناك أي سياسات أو برامج أو مبادرات لتوطين هذه الثقافة الجديدة، وما نلاحظه من جهود بسيطة تندرج ضمن تشجيع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهناك فرق جوهري بين المفهومين كما أشرنا آنفا. ونحن في الجمهورية اليمنية في أمس الحاجة إلى تشجيع ثقافة ريادة الأعمال وممارسة العمل الحر، لعدة أسباب أو اعتبارات من أبرزها ما يلي:
- أن ريادة الأعمال تعمل على امتصاص قدر كبير من مشكلة البطالة وخلق الوظائف وفرص العمل، وخاصة لفئة الشباب، واليمن تعاني من نسبة كبيرة من البطالة في أوساط هذه الفئة، وهي بحسب الإحصائيات والتقارير الدولية تصل إلى أكثر من (60%) في صفوف الشباب.
وطالما أن ريادة الأعمال أحد الحلول الناجعة للبطالة فإنها بذلك تقلص رقعة الفقر والمشكلات الاجتماعية الأخرى، واليمن كغيره من الدول يعاني من ظاهرة فقر حادة، حيث بلغت معدلاتها بحسب الإحصاءات الحكومية - وهي بالطبع تقارير ذات صبغة سياسية- (34%) من إجمالي السكان، بينما التقارير والإحصاءات الدولية الحديثة تقدر معدل الفقر في اليمن ب(54.5%)، في الوقت الذي يقدر فيه أكاديميون يمنيون معدل الفقر بأنه يتجاوز (75%) (www.alarabiya.net).
- أن ريادة الأعمال تعد وسيلة للكشف عن الفرص المتاحة، واليمن لازالت منطقة بكر، وتكتنز في كافة قطاعاتها العديد من الفرص الريادية التي يمكن استغلالها في هيئة مشاريع صغيرة في المجالات التجارية أو الخدماتية.
- أن ريادة الأعمال وسيلة للانفكاك والتحرر من الوظائف الحكومية البيروقراطية، والوظيفة الحكومية في اليمن والتي يتهافت عليها معظم أبناء المجتمع هي وظائف غير منتجة وذات مردود زهيد لا يلبي الحد الأدنى من الحاجات الأساسية للموظف، مما يحتم على الأفراد الفاعلين والمبادرين عدم تضييع قدراتهم وأعمارهم في الوظيفة البيروقراطية، والتوجه نحو العمل الحر وتأسيس المشاريع الريادية الصغيرة، وإن كانت البدايات صعبة والمعوقات كثيرة.
- أن ريادة الأعمال تعمل على تمتين العلاقة بين الجامعات ومراكز البحث العلمي من ناحية، والشركات الصناعية من ناحية أخرى، وهذه العلاقة في اليمن لم تتأسس بعد بين الطرفين، وكل ما تقدمه الجامعات هو فقط تعليم تقليدي، أما أن تتحول الجامعات إلى مراكز علمية لتلبية حاجات القطاع الصناعي من الأبحاث التطبيقية وتطوير الأفكار الابتكارية التي يمكن للقطاع الصناعي تحويلها إلى مبتكرات ومنتجات قيمة، فإن هذه الفكرة سابقة لأوانها بالنسبة للجامعات، لكونها لم تمتلك بعد التجهيزات الأساسية والموارد المالية والبشرية اللازمة لتنفيذها.
- أن ريادة الأعمال تمثل القوة المحركة للإبداع والابتكار لكونها تمثل مجال لإطلاق الأفكار الإبداعية وتحويلها إلى مشاريع ومنتجات مبتكرة قابلة للتسويق وتحقيق أرباح كبيرة، في كافة المجالات وخاصة المجالات التكنولوجية، والطبية، والصناعية، ونحن في اليمن نشاهد دائما بروز نماذج من الأفراد المبدعين الذين يمتلكون أفكار وخطط لمشاريع ابتكارية، ولكنها لا تجد التشجيع المادي والمعنوي الكافي، ومن ثم سرعان ما تتوارى وتندثر، بينما نجد أفكارهم ومشاريعهم الإبداعية تلاقي النجاح والاحتفاء في الخارج، وعلى سبيل المثال لا الحصر حصول رائد الأعمال اليمني الشاب عماد المسعودي على جائزة ريادة الأعمال العالمية لعام (2013م) من قبل (صندوق المئوية) في المملكة العربية السعودية نظير جهوده في تأسيس شركة ريادية ناجحة.
- أن ريادة الأعمال تعمل على الحد من ظاهرة هجرة الأدمغة المبدعة، من منطلق أن توفر مناخ صحي وبيئة ريادية داعمة ومحفزة للاستثمار والإبداع والابتكار تجعل الأفراد ذوي القدرات الجوهرية يفضلون البقاء داخل الوطن بدلا من الهجرة ومعاناة الاغتراب، ونحن في اليمن لم تتوفر بعد مثل هذه البيئة الريادية المساندة لاعتبارات يطول شرحها، مما جعل الكثير من الكوادر المبدعة تفضل الهجرة إلى دول الشرق والغرب.
أن أحد مصادر تمويل المشاريع الريادية هو ما يعرف برأس المال المخاطر، ورأس المال النبيل، وهناك فئة في المجتمع اليمني لديها رأس المال ولكن لا تمتلك القدرة على استثماره بكفاءة، وريادة الأعمال متى ما توفر لها البيئة الحاضنة فإنها سوف تفرز رواد اعمال ومستثمرين مخاطرين يحملون أفكار ومشاريع أعمال واعدة، ومن ثم يمكن لأصحاب رؤوس الأموال الدخول معهم في صفقات وشراكات استثمارية حقيقية وخاصة المغتربين اليمنيين الذين بلغ تعدادهم في الخارج قرابة (5) مليون فرد، يمتلكون أرصدة ومدخرات كبيرة من المال المعطل، والتي إن تم ضخها في مشاريع استثمارية مشتركة سوف تحدث انتعاشة قوية للاقتصاد الوطني.
إن ثقافة ريادة الأعمال تمثل مهمة مشتركة بين عدة أطراف ومنها المدارس والجامعات ومؤسسات التدريب والتأهيل، مما يستدعي إدخال مقررات ومواضيع ريادة الأعمال في المناهج الدراسية لغرس الروح الريادية والنزعة للمبادرة والمخاطرة المحسوبة والقدرة على إدراك الفرص وتحويلها إلى مشاريع ريادية ناجحة، ولكن للأسف فنحن في اليمن لم تتضمن مناهجنا الدراسية سواء في المدارس أو الجامعات أي مواضيع أو مقررات عن ريادة الأعمال.
وبناء على ما سبق نعتقد أن تشجيع ثقافة ريادة الأعمال تعد مسألة حيوية في هذه المرحلة من حياة المجتمع اليمني، ويجب أن تكون أحد محاور برنامج حكومة الأستاذ خالد بحاح التي تم تشكيلها مؤخرا، وذلك لكون الدفع بالشباب إلى مجال ممارسة النشاط الريادي سوف يتمخض عنه حلول للكثير من الأزمات والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية الحرجة. ومن ثم يجب على الحكومة أن يضمن برنامجها الإشارة بوضوح إلى ريادة الأعمال، وأهميتها وفوائدها وكيفية دعمها وتطويرها من خلال سياسات وبرامج وإجراءات متنوعة على مستوى التشريع والتعليم والتدريب والتمويل والنصح والإرشاد وحاضنات الأعمال والدعم الفني ومعالجة حالات الإعسار والفشل، كما يجب عليها أن تستفيد من تجارب الآخرين وخاصة التجربة الخليجية، وهذا ما سوف نخصص له مقالة مستقلة إن شاء الله مستقبلاً.
- باحث في جامعة الملك سعود- الرياض