جملة من الأحداث والمواقف تحرك المشهد اليمني الملتبس الذي بدا محيراً للمراقب إلى حد كبير منذ الصعود المفاجيء والملغز للقوة الحوثية المتنامية في صنعاء، ومنذ سيطرتها بسرعة كبيرة على مفاصل الدولة اليمنية، ووضع الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء تحت الإقامة الجبرية.
الحوثيون الذين تمردوا على النظام الحاكم 2014 وصلوا إلى صنعاء بعد عشر سنوات، وبعد أن وقعوا على شروط استسلام في 2010 في نهاية الحرب السادسة في تاريخ معروف.
اليوم، الحوثيون في صنعاء منتصرون في ظاهر الأمر، غير انهم في ورطة من أراد أن يبتلع لقمة كبيرة على حلقومه، وقفت له وسط الحلقوم، فلا هم يقدرون على ابتلاع البلاد والسيطرة عليها بشكل تام، بعد أن انتفضت المدن والمناطق القبلية ضد انقلابهم، ولا هم واتتهم الشجاعة للتراجع خطوة للوراء لإفساح المجال لتطبيع العمل السياسي بناء على المرجعيات التي أسست للمرحلة الانتقالية، والمتمثلة في المبادرة الخليجية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
مشكلة الخطاب الحوثي اليوم أنه خطاب شعبوي، موجه لجمهورهم المقاتل الذي انتقوه بعناية ليتقبل مفردات هذا الخطاب، ومن شروط تقبل نجاح الخطاب وجود جمهور من صغار السن، ومن مناطق قبلية بعينها وظف تجهيلها فترات طويلة لصالح خطاب حوثي لا يقبله العقل والمنطق، في استناده على مقولات غيبية لا علاقة لها بحياة التمدن، والدولة الحديثة التي ينشدها عامة اليمنيين اليوم.
يحاول الحوثي اليوم تغطية عجزه السياسي عن إدارة شؤون البلاد الداخلية، وعلاقاتها الخارجية، بالتقدم العسكري لميليشياته الذي يعلم أنه لن يجديه كثيراً في المحصلة النهائية، لأنه في نهاية المطاف، في بلدة مثل اليمن، لا يمكن لطرف أن ينفرد بالسلطة دون، غيره، ولن يأتي الاستقرار الذي يريده الحوثيون لوضعهم، إلا بتوافق جميع الأطراف السياسية في البلاد.
وإذا كانت عملية سيطرة الحوثيين على مناطق بعينها ميسورة، فإن هناك صعوبة بالغة يواجهها الحوثي بخروجه من دائرة تلك المناطق التي استطاع السيطرة عليها بفزاعة خروج السلطة من يده إلى مناطق أخرى، وبتكتيكات كثيرة منها شراء الذمم بين المشائخ القبليين والقادة العسكريين والشخصيات الاجتماعية، وكذا بالتحالف مع تيار قوي في حزب الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، ذلك التيار الذي طغى لديه فيما يبدو «الولاء المناطقي» على الولاء الوطني، وكذا بإعادة التحالف المذهبي القبلي القديم الذي على أساسه قامت سلاسل من الأنظمة في اليمن ضمن العصور الوسطى، وإلى عام 1962. وقد اقتضى هذا التحالف القديم أن القبيلة هي المؤسسة العسكرية للإمامة، دون أن يكون لها حق التفكير في السلطة إلا على اعتبار أن ابناءها جنود لحراسة «أمير المؤمنين وحامي حمى الدين»، هذا التحالف الذي يعمل الحوثيون اليوم على إحيائه في مناطق الشمال يسر لهم معضلات كبيرة، وسير الكثير من أهل المصالح، والرؤية الضيقة في ركاب ما يسميه الحوثيون «المسيرة القرآنية»، التي يقول فقهاؤها الدينيون أنها ستعم العالم أجمع.
كل تلك العوامل المذكورة هيأت للحوثيين التمدد والانتشار في مناطق حزام صنعاء القبلي الشمالي، ومن ثم توظيف أبناء قبائل هذا الحزام في حروب عبثية ضد إخوتهم في الوطن. غير أن الحوثيين عندما غادروا المنطقة التي قووا فيها التحالف المذهبي القبلي، إلى خارج حدود هذا التحالف، ووجهوا برفض شعبي كبير بدأت ارتداداته تصل إلى مناطقهم التي يعولون على عدم انتفاضتها، حيث خرج آلاف المتظاهرين قبل ايام في محافظة حجة المحاذية الواقعة ضمن ما يعده الحوثيون تركة تاريخية لنظام الإمامة الذي يرون أنهم ورثته الحقيقيون.
وإذا كان الوقت قد أسعف الحوثيين عسكرياً بتمدد ميليشياتهم إلى مناطق أخرى، فإنه يتفلت من بين أصابعهم سياسياً، حيث تسير البلاد ومشروعهم ضمنها إلى الطريق المسدود الذي أوصلوها إليه، بإقدامهم على خطوات غير محسوبة.
واليوم يراوح حوار فندق موفنبيك مكانه دون اختراق حقيقي رغم إعلان المبعوث الدولي جمال بن عمر عن الاتفاق على تشكيل مجلس وطني شامل، وذلك بتوسيع مجلس الشورى الحالي ليشمل اكثر من 400 عضو، مع الإبقاء على مجلس النواب بصورته الحالية، ليتكون من قوام المجلسين ما يمكن أن يسمى المجلس الوطني الذي سيكون له حق تشكيل السلطة التنفيذية في البلاد. غير أن ضمانات نجاح هذه الخطوة غير موجودة، كما أن نجاحها يتوقف على قدرة الحوثيين على الاستجابة لمطالب الأطراف السياسية والشعبية الأخرى في سحب المليشيات من المدن، وتسليم أسلحة الدولة التي نهبوها، وعدم التدخل في إدارة شؤون الدولة، وغير تلك من الاجراءات التي تهيىء لتطبيع العملية السياسية.
لا أحد يستطيع التكهن بالضبط إلى أين تتجه الأحداث في اليمن، فهذا بلد عجيب في صياغة مفاجآته، التي بدأها بانتفاضة سلمية في مجتمع قبلي مسلح، ثم مفاجأة التوافق على حل سياسي تمثل في المبادرة الخليجية، حيث لم تكتمل انتفاضة 2011، ولم يستمر كذلك نظام الرئيس السابق، وعوضاً عن ذلك شكلت حكومة الوفاق الجديدة، وجاء نائب الرئيس للسلطة، ودخل الناس في حوار وطني استمر عشرة أشهر، ليخرجوا متفقين على جملة من القضايا الوطنية، منها شكل نظام الحكم، وشكل الدولة، وغير ذلك مما صيغ في دستور البلاد الذي انبنى على أساس مخرجات الحوار الوطني، والذي كان جاهزاً للعرض على البرلمان، لإقراره، ومن ثم عرضه على الشعب في استفتاء عام، تمهيداً لإقراره نهائياً، ومن ثم الذهاب لانتخابات برلمانية ورئاسية. كان ذلك قبل أن تأتي المفاجأة الأخرى التي تمثلت في إقدام الحوثيين على اختطاف الدكتور أحمد عوض بن مبارك، مدير مكتب رئيس الجمهورية، ومعه نسخة من الدستور، ليتم الافراج عنه لاحقاً مع اشتراط مغادرته البلاد. ومن ثم تأتي المفاجآت الأخرى التي مرت على دار الرئاسة ومنزل رئيس الجمهورية، الذي وضع أخيراً في خطوة مفاجئة تحت الإقامة الجبرية، ليعلن الحوثيون يوم 6 شباط/فبراير ما سموه «الإعلان الدستوري»، الذي لم تقبل به كل المكونات السياسية، والذي ألغى مجلس النواب، وقرر تشكيل المجلس الوطني التشريعي، الذي من المقرر له أن يقوم بتشكيل المجلس الرئاسي، في خطوة من الخطوات المفاجئة الكثيرة التي دأب الحوثيون مؤخراً على القيام بها، والتي تندرج ضمن مجموعة من التكتيكات التي تحرك المشهد اليمني سياسياً واجتماعيا وعسكرياً. ومهما يكن من أمر، فإن استمرار فرض الحوثيين لإعلانهم الدستوري الذي يجمع الفرقاء في اليمن على أنه إعلان انقلابي، غير ممكن، وقد أدرك الحوثيون ذلك، وهناك مؤشرات عديدة على تراجعهم عنه، وذلك بموافقتهم على إعادة صياغة المشهد السياسي، ولكن على غير الطريقة التي خططوا لها. جاء ذلك بعد تزايد الرفض الشعبي، وخروج الآلاف في معظم المحافظات تنديداً بالانقلاب، وكذا لرفض القوى السياسية المختلفة، التي جعلها إصرار الحوثيين على إعلانهم في موقف الرفض له، كما ان تصريحات جمال بن عمر بأن الحوار يجري على أساس من المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني، واتفاق السلم والشراكة، أضعف من مدى اهمية الإعلان الدستوري للحوثيين.
وجاء قرار مجلس الأمن الأسبوع الماضي ليصب في مجرى استمرار العملية السياسية استناداً على مرتكزاتها الأساسية المذكورة آنفاً، وليس على أساس ما سماه الحوثيون «الإعلان الدستوري»، الذي رفض داخلياً وخارجياً.
بقي أن نشير إلى أن موقف دول مجلس التعاون الخليجي الواضح إزاء إدانة «الانقلاب الحوثي» عقد الأمر في وجه طموحات هذه الحركة، ليجعلها تعيد النظر في طبيعة تحركاتها، خاصة وأن أي سلطة سياسية في اليمن، لا يمكنها أن تستقر بعيداً عن التناغم مع جوارها العربي في دول الخليج بشكل خاص.
وبالمجمل فإن الوضع ملتبس في اليمن سياسياً وأمنياً، غير أن الأطراف المتحاورة في فندق موفنبيك، تعرف تماماً أن مصلحتها تقتضي التوصل إلى اتفاق يبنى على أساس من التوافق الوطني، وليس على أساس الانفراد بالسلطة، وهذا ما يمكن أن يعطي بارقة أمل في الخروج من المأزق الحالي الذي تمر به البلاد.